– الأزمة الاقتصادية العالمية تتجذر وتصيب أكبر الاقتصادات.
– أمريكا تواجه أسوأ تضخم منذ عقود برفع كبير لسعر الفائدة.
-خطورة وتباين آراء ومخاوف من تحول التضخم إلى ركود.
– الاقتصاد العالمي ككل سيتأثر بالقرار الأمريكي.
– البلدان النامية والاقتصادات الناشئة الأشد تأثرًا.
-الانعكاسات المحتملة على المنطقة العربية والشرق الأوسط كثيرة.
-دول الخليج العربي هي الأقل تأثرا بقرارات الفيدرالي الأمريكي.
– مخاطر وتحديات تتعلق بقطاع الاستثمار والقروض والقطاع النفطي في الخليج.
– تواجه دول كمصر والأردن وغيرها تحديات كبيرة بعد القرار.
-اقتصاد تركيا بين التأثر والاستعداد المسبق للهزة الأمريكية.
-الحذر مطلوب والتعاون والتنسيق بين دول المنطقة أصبح ضرورة لتجاوز التحديات.
أكد قرار الاحتياطي الأمريكي يوم الأربعاء الماضي، رفع معدلات الفائدة في الولايات المتحدة على تعمق وتجذر الأزمة المالية في الاقتصاد العالمي الأول بعد أن قررت واشنطن اضافة 50 نقطة أساس ليزيد معدل الفائدة بمقدار نصف درجة ويصبح عند معدل في أعلى نسبة منذ عشرين عامًا. حيث أعلن مجلس الاحتياطي الفيدرالي أنه رفع سعر الفائدة القياسي بمقدار نصف نقطة مئوية، إلى نطاق يتراوح بين 0.75 بالمئة و 1 بالمئة بعد زيادة طفيفة سابقة في مارس آذار الماضي.
المرجح أن القرار الأخير ستعقبه سلسلة قرارات يقوم بها بنك الاحتياطي الفيدرالي برفع سعر الفائدة نصف نقطة أخرى في اجتماعه المقبل في يونيو، وقد يتكرر ذلك في الاجتماع الذي يليه في يوليو، وفق توقع الخبراء الاقتصاديون عن استمرار ارتفاع أسعار الفائدة خلال الأشهر التالية.
أولا : سعر الفائدة وأثره الاقتصادي.
أ. دلالات المصطلح:
يعرّف مصطلح سعر الفائدة بأنه أداة رئيسية تقوم بها البنوك المركزية في الدول بهدف ضبط السياسة النقدية للبلاد.. عبر تحديد “سعر الأموال”. وكأنه تأمين لعدم رد الأموال إذا اقترضها شخص أو شركة ويتحدد هذا التأمين بنسبة الفائدة.
وسعر الفائدة الأساسية هو كلفة الاقتراض ما بين البنوك، حيث تقوم البنوك والمؤسسات المالية بتحديد سعر فائدة على القروض والمدخرات استنادًا إلى سعر الفائدة الأساسية.
حيث أنه كلما ارتفع سعر الفائدة الذي يضعه البنك المركزي، تزيد نسبة الفائدة بشكل تلقائي على القروض القائمة والجديدة، بالعملات المقومة بعملة المركزي أو المرتبطة بها.
ب. السلبيات والإيجابيات:
برفع معدل الفائدة، تزداد تكاليف الاقتراض على الأفراد والشركات الراغبة بالحصول على الأموال لأي غرض كان استثمارا أو بناء أو غيره.. فلو اقترض العميل مبلغ 100 دولار لتوجب إعادتها بالفترة المحددة بزيادة تقدر بمعدل الفائدة (في حال معدل الفائدة 5% يتوجب إعادة 105 دولار في حال اقتراض 100 دولار ) ومع كل عملية رفع بمعدل الفائدة يقل الإقبال على الاقتراض الأمر الذي سينعكس على حركة الاقتصاد والمشاريع والاستثمار.
من جهة أخرى، فإن رفع معدل الفائدة يكون إيجابيًا للمودعين في البنوك -بشكل نسبي- فأصحاب الودائع المصرفية لدى البنوك العاملة في الأسواق، يتحصلون على عوائد أعلى.
أي أن المودع بعملة الدولار (أو عملة أي بلد رفع معدل الفائدة لديه)، سيكون أمام فرصة تعزيز ودائعه للحصول على فوائد أعلى مقابل إيداعها لدى البنوك، بسبب قرار رفع أسعار الفائدة.
وفي هذه الحالة، نشهد في الأسواق المالية ارتفاعا متسارعا في ودائع العملاء لدى القطاعات المصرفية، للاستفادة من نسب الفوائد الصاعدة، في المقابل تتراجع وفرة السيولة داخل الأسواق.
بذلك باتت الودائع المصرفية من أشكال الاستثمار للأفراد والمؤسسات، من خلال وضعها داخل حسابات مصرفية، وتقاضي فوائد عليها بشكل شهري أو ربع سنوي أو سنوي.
لكن من أبرز سلبيات قرار رفع الفائدة، أنها تدفع لخطر إحداث تباطؤ اقتصادي حاد (خصوصًا على مستوى العالم في حالة القرار الأمريكي)، لا سيما مع ظهور تحديات جديدة، مثل الحرب في أوكرانيا وعمليات الإغلاق الأخيرة في الصين بسبب تفشي فيروس كوفيد-19.
ت. محركات ودوافع:
وفقًا لما تم شرحه، يتضح لنا المغزى من رفع معدل الفائدة في الاقتصاد الرأسمالي المعاصر، فبعد أن يشهد البلد ارتفاع معدلات التضخم (التضخم: وفرة السيولة المالية في الأسواق بشكل يعني انخفاض القوى الشرائية للعملة مقابل السلع والخدمات، عندما يرتفع معدل التضخم لـ 10% يعني أن السلعة التي كان سعرها 100 دولار أصبح سعرها 110 دولار)، فيلجأ البلد عبر مصرفه المركزي لكبح جماح التضخم عبر زيادة أسعار الفائدة، من خلال تقليص حجم الكتلة النقدية داخل الأسواق، وبالتالي يتراجع الاستهلاك والاستثمار، وتعيد الأسواق برمجة القوة الشرائية بناء على السيولة المتوفرة.. وهنا تنشأ معضلة أخرى تتمثل بخطر الركود إذا ما أحجم الناس عن الإنفاق واستخدام السلع والخدمات فتتباطئ الأسواق ويضعف الإنتاج.
ثانيـًا: دواعي القرار الأمريكي
جاء قرار الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي برفع الفائدة بعد ارتفاع نسبة التضخم في الاقتصاد، أي زيادة أسعار السلع والخدمات كما ذكرنا.
خبراء الاقتصاد اعتبروا تلك الإجراءات بأنها أكثر خطوات الفيدرالي “جذرية” خلال ثلاثة عقود لمكافحة التضخم، ليؤكدوا أن التحركات الاخيرة ستجعل الاقتراض من أجل شراء سيارة أو منزل أو إبرام صفقة تجارية أو شراء بطاقة ائتمان أكثر تكلفة، ما سيضاعف الضغوط المالية على الأمريكيين.
في حالة الدولار الأمريكي، ستترتفع كلفة الإقراض اعتبارا من يوم إقرار الزيادة على البنوك، وبالتالي على العملاء، وهذا مؤشر سلبي على الاقتصادات الباحثة عن تحفيز الأسواق من خلال وضع نسب فائدة منخفضة.
وسيدفع رفع كلفة الإقراض إلى تراجع وتيرة الإقدام على طلب التسهيلات الائتمانية في الأسواق العالمية، خصوصا بعملة الدولار والعملات المرتبطة به (العملات الخليجية مثلا).
في الولايات المتحدة بلغ معدل التضخم 8.5 بالمئة في مارس آذار الماضي، كأعلى معدل سنوي منذ عام 1981، وتفاقم الوضع بسبب التسارع في ارتفاع تكاليف الغذاء والطاقة.
هذا الأزمة تجاوزت بكثير هدف البنك المركزي الأمريكي الذي
كان عند حدود 2 بالمئة، وأصبح هذا الارتفاع يمثل قضية سياسية متفاقمة لرئيس الولايات المتحدة جو بايدن.
والخطورة القائمة في أمريكا ترتبط بخطورة عملية رفع الفائدة اقتصاديًا لمكافحة التضخم، حيث يرى اقتصاديون أن استجابة الفيدرالي جاءت متأخرة وقد يكون القرار خطأ يعالج خطأ سابق ويدفع بالاقتصاد للدخول في الركود.
ثالثـًا: انعكاسات القرار عالميًا
تسبب انخفاض معدل الفائدة الأمريكية في السنوات الماضية الماضية؛ بوفرة الدولار في احتياطيات البنوك المركزية العالمية لتبحث تلك الأموال عن مناخ استثماري يحقق لها عوائد ربحية عالية، فاتجهت أموال المستثمرين والمودعين إلى بيئات صاعدة اقتصاديًا تبحث عن مكان لها في الاقتصاد العالمي من أجل تحقيق معدلات نمو عالية ورفع مستوى اقتصادياتها (الاقتصادات الناشئة أو النامية كـ تركيا والبرازيل وجنوب أفريقيا والمكسيك وكولومبيا..) التي اعتمدت في بناء وتنمية اقتصادياتها على جذب رؤوس الأموال الأجنبية للاستثمار أنتجت أرباحًا للمستثمر ونموًا عامًا في البلاد.
أي أن أموال المودعين هربت -إن جاز التوصيف- من معدلات فائدة منخفضة في أمريكا في السنوات الماضية، إلى بلدان ذات فائدة أعلى تمكنت من جذبها بسبب ما تشهده من نمو مرتفع وازدهار اقتصادي متصاعد.
وعليه، فإن إعلان رفع الفائدة الأمريكية يُقرأ على أنه بداية “دورة اقتصادية” جديدة في الاقتصاد الأمريكي الأكبر عالميًا، وتبعًا لهيبة السياسة النقدية الأمريكية ولعملتها القوية التي تعكس اقتصادًا قويًا ونموًا عاليًا فإن معظم البلدان حول العالم ستلحق بأمريكا وترفع سعر الفائدة حتى تكون ضمن الدورة الاقتصادية الجديدة.
أ. ردة الفعل:
ما إن قرر الفيدرالي الأمريكي رفع الفائدة، حتى اتخذت كثير من دول العالم إجراءات مماثلة، فقرر المركزي الهندي يوم الأربعاء، زيادة مفاجئة في سعر الفائدة، بدوره قام البنك المركزي الأسترالي أخيرًا برفع سعر الفائدة لأول مرة منذ أكثر من عقد.
وأتاحت سنوات طويلة من خفض سعر الفائدة على الدولار الأمريكي، الفرصة لخفض فائدة ودائع العملات الأخرى على مستوى العالم، حيث سمحت بتوسع هائل للإقراض وصلنا ذروته خلال تفشي وباء كورونا.
بتلك الخطوة الأمريكية يتضح أن تأثيرها لن يتوقف تأثيره على الداخل الأمريكي. فباتت مؤشرات التداعيات خارج حدود أمريكا تظهر تباعًا، بل وصلت أصحاب المتاجر في سريلانكا والمزارعين في موزمبيق والأسر في البلدان الفقيرة حول العالم. وتتراوح التأثيرات في الخارج من ارتفاع تكاليف الاقتراض إلى انخفاض قيمة العملات. ليؤكد الخبراء أن ما جرى: “سوف يضغط على جميع أنواع البلدان النامية”.
لفهم ابسط يمكننا القول إن رفع سعر الفائدة على الدولار الأمريكي يجعله أكثر جاذبية للمستثمرين، وخاصة مستثمري الأموال الساخنة، أي أنهم يحوّلون استثماراتهم ومدخراتهم من العملات المختلفة المتداولة إلى الدولار، لاسيما مع الرأي السائد أن العملة الأمريكية أكثر أماناً لهم بالتوازي تقديمها فائدة أعلى.
وبنظرة إلى تقرير جديد لوكالة أسوشيتد برس الأمريكية (AP) يرجح أن تؤدي تلك التحولات إلى ارتفاع الدولار الأمريكي وتدفع العملات إلى الانخفاض في العالم النامي.
وهنا يجب الإنتباه أن هبوط عملات البلدان النامية يمكن أن يقود لمشكلات للدولة التي يحدث بها ذلك. مثلًا يجعل دفع ثمن الأغذية المستوردة وغيرها من المنتجات أكثر تكلفة، وهذا مؤشر خطر خصوصًا بعد أن أدت اختناقات سلاسل التوريد والحرب في أوكرانيا إلى تعطيل شحنات الحبوب والأسمدة، ودفعت أسعار الغذاء في جميع أنحاء العالم إلى مستويات مثيرة للقلق.
إلى ذلك؛ يبدو تأثير رفع سعر الفائدة على الدولار بشكل واضح على عملات الدول الناشئة (عملات الدولة الواقعة بين الدول المتقدمة والنامية والشريحة المتوسطة من الدول النامية، ينطبق التوصيف على دول عديدة منها دول أمريكا اللاتينية مثل الأرجنتين والمكسيك والبرازيل والهند وإندونيسيا وتركيا ومصر) والتي يُعرف عنها بأنها واسعة التداول نسبيًا في الأسواق المالية مع عدم قوتها.
ب. خطوات احتياطية محتملة:
مع الإقبال على الدولار، قد تشهد البلدان النامية عمليات بيع لعملاتها في الأسواق، ولضمان عدم حدوث عمليات بيع “واسعة” ورفع جاذبية أوراقها المالية، قد تلجأ تلك الدول لرفع الفائدة على عملاتها بنسبة مقاربة لما سيحدث للدولار. وهنا تكمن الخطورة مع ما يعنيه هكذا قرار من زيادة تكاليف الاقتراض بالنسبة للمستثمرين والمشترين المحتملين، بشكل سينعكس سلبًا على رغبتهم في الاستثمار والشراء، ويقلل النشاط الاقتصادي، كما أنه يشجع المزيد من الناس على إيداع أموالهم في المصارف التي ستواجه مشكلة في استثمارها وتقديمها للمقرضين في ظل ارتفاع أسعار الفائدة، كما أن تراجع الاستثمار والاستهلاك يؤدي إلى تفاقم البطالة. (نذكّر هنا بقرارات تركيا وحكومة الرئيس أردوغان في الشهور الماضية بخفض معدل الفائدة لتحفيز الاستثمار والإنتاج). كما يؤدي رفع سعر الفائدة إلى زيادة تكلفة الاقتراض لتلك الدول، ما يعني زيادة أعباء الديون.
ويشير خبراء مختصون أن 60% من البلدان منخفضة الدخل هي بالفعل في “أزمة ديون” أو قريبة منها، في ظل عتبة مقلقة، وصلتها بعد تساوي مدفوعات ديونها نصف حجم اقتصاداتها الوطنية.
رابعـًا: التداخل والتأثير في الشرق الأوسط
تعاني أغلب دول المنطقة بشكل عام من تفاقم مشكلة ارتفاع مستويات مديونياتها الخارجية المقومة بالدولار، والإشكالية الأكبر لهذه الدول هي الفوائد المركبة على أصل الدين.
لذلك فإن أي تشديد في السياسة النقدية الأمريكية سيؤثر سلبا على الدول ذات المستويات المرتفعة من الديون بالدولار، خاصة بالنسبة للدول التي تجاوزت فيها المديونية الخارجية حجم الناتج المحلي الإجمالي للبلاد.
تنقسم الدول في المنطقة نظرًا لمعيار الاقتصاد والأزمة الحالية إلى دول ذات اقتصاد ريعي نفطي ودول غير نفطية.. ومن معيار آخر إلى دول تربط عملاتها الوطنية بالدولار الامريكي (دول الخليج ما عدا الكويت) ودول غير مرتبطة بشكل مباشر بالدولار. بذلك فإن تأثيرات القرار الأمريكي الأخير ستختلف بين تلك الدول وفق تلك المعايير.
أ. دول الخليج العربي:
ستكون الأقل تأثرًا، بسبب عاملين اثنين:
– الاستفادة من ارتفاع أسعار النفط والغاز بعد حرب أوكرانيا وتحقيقها فوائض مالية.
-الاحتياطيات المالية الكبيرة فيها، وارتباط سعر صرف عملاتها المباشر بالدولار.
وبسبب الارتباط مع الدولار وبهدف استمرار ثبات أسعار صرف عملاتها تجاه الدولار، وجدنا أغلب دول الخليج ترفع الفائدة على عملاتها بنفس معدل رفع سعر الفائدة على الدولار، بعد قرار الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي.
وأقرت البنوك المركزية في كل من السعودية والإمارات والكويت والبحرين وقطر، رفعًا فوريًا لأسعار الفائدة، بنسب مماثلة للتي رفعها الاحتياطي الأمريكي (خالف المركزي الكويتي ذلك برفع سعر الخصم بواقع ربع نقطة مئوية، ليرتفع بذلك من 1.75% إلى 2%، أقل من المعدل الأمريكي ونشير أن الكويت تربط الدينار بسلة عملات منها الدولار).
بناء على ذلك كله؛ فإن المرجح قدرة دول الخليج على تعويض النقص في السيولة الناجم عن السياسات الانكماشية المتوقعة، فتكون من أقل دول العالم تأثرًا برفع سعر الفائدة على الدولار الأمريكي، لا سيما أنها قد لا تحتاج للاقتراض بشكل كبير – بعد ارتفاع العوائد النفطية – لتحقيق مشاريع والقيام باستثمارات وعمليات إنتاجية. أما في حال استمرار وزيادة دول الخليج بالاقتراض الخارجي فسيقود رفع الفائدة الأخير لزيادة تكلفة الاقتراض بالأسواق الدولية، سواء في أسواق السندات أو الأسواق التجارية. (يجب التنويه أنه عندما يتخذ البنك الفيدرالي الأمريكي، قرارًا برفع سعر الفائدة الأمريكية، فإن ذلك سيؤدي إلى تراجع سعر النفط والذهب، فكلما ارتفع سعر صرف العملة الأمريكية هبطت أسعار النفط العالمية).
كما أن القطاع العقاري الخليجي -الذي يعتبر المحرك الرئيسي للنشاط الاقتصادي في بعض دول المنطقة- سيكون الأكثر تأثرًا بالرفع المتتالي للفائدة حيث تؤثر معدلاتها طويلة الأجل في مستويات تمويل شراء العقارات. دون أن ننسى تأثير رفع الفائدة داخليًا حيث سترتفع تكلفة الإقراض للأفراد والمؤسسات، الأمر الذي يزيد من صعوبة وتكلفة التمويل.
لكن، من جهة ثانية فإن لقرار رفع الفائدة الأمريكي بعض الآثار الإيجابية على دول الخليج وصناديقها الاستثمارية التي ستستفيد ودائعها في البنوك أو السندات الأمريكية من رفع الفائدة. وهي جزئية مرتبطة بنسبة الاستثمارات الخليجية في الولايات المتحدة سواء في البنوك أو العقارات، أو أسواق المال”.
إلى ذلك.. لدينا هنا حالة متداخلة تتعلق بإيران، والتي هي دولة نفطية تستفيد من ارتفاع أسعار النفط، لكنها تعيش واقع العقوبات الغربية ونوعًا من الحصار الاقتصادي بشكل يجعل تأثرها خاصًا ولا يخضع لذات المعايير التي جرت بها هذه الدراسة.
توازيًا، يتوقع أن الدول العربية النفطية غير الخليجية كـ الجزائر والعراق وليبيا في وضع أفضل نسبياً بفضل ارتفاع أسعار النفط والغاز، لكن تلك الدول لديها ديون ليست بقليلة ومشكلات سياسية واقتصادية ما يعقّد أزمتها بعد القرار الأمريكي.
ب. دول المنطقة غير النفطية:
المشكلة الفعلية التي تواجهها هذه الدول (مصر – الاردن – تركيا ..) كحالة كثير من الدول النامية، وقوعها بأزمة ديون بالتوازي مع أزماتها الاقتصادية الداخلية، ورفع الفائدة يعني رفع كلفة الاقتراض لتحقيق المشاريع وبالتالي زيادة أعباء الديون، ومن ضمن أزمتها المركبة أنهت تلجأ للحصول على قروض أخرى لتسديد قروضها السابقة، وسوف يصبح هذا أصعب عليها مع رفع سعر الفائدة على الدولار الأمريكي.
لذلك، من المتوقع قيام أغلب دول المنطقة برفع سعر الفائدة المحلية لمنع صرف المدخرات من عملاتها المحلية إلى الدولار، إلا أن ذلك سيعيدنا لمربع الخطر الذي ذكرناه مع رفع تكلفة الاقتراض المحلي للحكومات، وكذلك تقليل نشاط الأسواق المتداعية أصلاً، ما يؤدي إلى تقليل النمو وزيادة البطالة.
بدءا من الأسبوع الحالي قرر البنك المركزي الأردني، رفع أسعار الفائدة بمقدار 50 نقطة أساس، على كافة أدوات السياسة النقدية. وبيّن “المركزي”، أن القرار يأتي “انسجامًا مع هدف البنك في المحافظة على الاستقرار النقدي والمالي في المملكة، ولاحتواء الضغوط التضخمية المحلية المتوقعة في ضوء استمرار الارتفاع في معدلات التضخم العالمي”. ويبلغ سعر الفائدة الرئيس حاليًا في الأردن قبل قرار الزيادة، 2.75 بالمئة، وسعر نافذة الإيداع ليلة واحدة 2.25 بالمئة.
– الحالة المصرية:
تعتبر القاهرة صاحبة أكبر قيمة من الدين العام بـ 409.5 مليار دولار، في حين وصلت نسبة الدين إلى حجم الاقتصاد بالبلاد 94%.
الملاحظ أن البلاد اعتمدت منذ تعويم الجنيه المصري جزئيًا عام 2016، بشكل كبير على تدفق تدفق الأموال الساخنة (المضاربين والمودعين في البنوك لقاء الفائدة) على سنداتها وأذونات الخزانة التي تصدرها لتوفير العملة الصعبة لدعم الجنيه.. لكن المشكلة أن القاهرة واجهت هروبًا لتلك الأموال الساخنة حتى قبل قرار الفيدرالي الأخير فشاهدنا ارتفاع الدولار أمام الجنيه المصري متجاوزًا عتبة 18 جنيه أمام العملة الأمريكية. بعد أن تأثر اقتصادها بحرب أوكرانيا مع نقص السياحة وارتفاع أسعار الغذاء.
لذلك لا يستبعد أن يعزز رفع سعر الفائدة على الدولار حركة نزوح تلك الأموال من مصر، بالذات لو أعاد الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي رفع سعر الفائدة على الدولار.. ما قد يجعل ذلك مصر واحدة من أكثر دول العالم تأثرًا باحتمال هروب هذه الأموال الساخنة من الأسواق الناشئة. (السودان وتونس قد تكون من أشد المتأثرين مع مصر بقرار الفائدة الأمريكي في ظل حاجتهم لقروض جديدة وارتفاع سقف القروض السابقة).
وعليه يتوقع خبراء الاقتصاد أن ينحو المركزي المصري في نفس اتجاه البنوك المركزية العالمية ويتجه إلى رفع الفائدة من 1% إلى 1.50% على السحب والإيداع.. وهنا نعود لدائرة الإشكالية المركبة في الاقتصاد المصري، فرفع الفائدة يعني تقليل النشاط الاقتصاد، ولاسيما القطاع الخاص، (ذكر تقرير لوكالة بلومبرغ الأمريكية تراجع كبير لحجم ونسب مساهمة القطاع الخاص في الاستثمارات في الاقتصاد المصري، من 64% في العام المالي 2011/2012 إلى 26% في العام المالي 2020/2021).
وربما يلجأ المركزي المصري لسياسة مزدوجة عبر رفع بسيط للفائدة، وإطلاق فوائد عالية للودائع مع فائدة أقل للاقتراض ليتحمل المركزي فرق الخسائر الناجمة عن ذلك، لكنها خطوة لا يتوقع أن تستمر طويلًا لتأثيراتها السلبية الكبيرة.
– الحالة التركية:
تستمر أزمة التضخم في البلاد بعد أن أكدت التقارير الاقتصادية ارتفاع معدل التضخم السنوي في أنقرة إلى 70% بنهاية أبريل نيسان الماضي (يعني ازدادت أسعار المنتجات بنسبة 70%) ، بشكل تجاوز التوقعات وشكّل أعلى مستوى للتضخم في عقدين.. حيث تأثرت تركيا بتداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية بعد تفشي كورونا وصعود أسعار السلع الأولية مع تدهور الليرة أواخر العام الماضي.. وصولا للحرب الأوكرانية وارتفاع أسعار الطاقة التي تستوردها تركيا بشكل ضخم.
ويمكن القول إن التأثير المباشر لرفع الفائدة الأمريكية على تركيا يتجلى بارتفاع سعر الدولار مقابل الليرة التركية كما حدث في العام 2013 مع بدء الولايات المتحدة سياسة التشديد النقدي عقب الأزمة المالية عام 2008
إلا أن قرار الفيدرالي الأمريكي الأخير، لم يسجل هزّة فعلية في سعر صرف الليرة التي بدت مستقرة -حتى الآن- رغم أزمة أوكرانيا وروسيا وارتفاع العجز التجاري في البلاد لارتفاع تكاليف الاستيراد على حساب التصدير.. حيث يرى البعض أن إصرار حكومة الرئيس أردوغان على خفض معدلات الفائدة في الأشهر الماضية قد سحب الاموال الساخنة من البلاد أصلًا، بالتوازي مع ضمانات الحكومة لأموال المودعين بالليرة التركية.. فلم تشهد هزات مفاجئة جراء قرار الفيدرالي الأمريكي الأخير.
توصيات ختامية:
تواجه دول المنطقة -يمكن أن نستثني دول الخليج جزئيًا- خطورة تدهور كبير في وضعها المالي، بشكل سينعكس على مستويات المعيشة فيها. ما يرفع مستوى خطورة وتحديات الاضطرابات السياسية التي قد تزداد حدتها هذا العام.
لذلك توجب على مختلف دول المنطقة اتخاذ الإجراءات اللازمة لتقليل التداعيات السلبية للقرار الأمريكي المرتقب.. بالتوازي مع ضرورة بحث الدول ذات المديونية العالية عن محاولات تمديد آجال الديون المستحقة لمواجهة الاضطرابات المترتبة على رفع سعر الفائدة الأمريكية.
يجب أن نشير أن حدّة الخطر لم تصل لدرجة كبيرة بعد، خصوصًا وأن رجال المال والاستثمار استفادوا من تجربة أزمة عام 2008 العالمية التي اشتعلت من أمريكا، والتي كان من خلاصتها ضرورة عدم قيامهم بوضع كل استثماراتهم في السوق الأمريكي ولذلك لا يتوقع أن يقوم كبار المستثمرين بسحب مراكزهم الاستثمارية في البلدان الناشئة بشكل كبير وسريع وتحديدًا إذا ما استطاعت الأسواق الناشئة تقديم مزايا جاذبة تقنع المستثمر من بنية اقتصادية تحتية وقوانين الاستثمار ذات جاذبية واضحة واستقلالية مصرفية وحرية وقوة العملة المحلية ومرونتها في الحركة.. مع ضرورة سعي دول المنطقة لتقليل الأخطار الجيوسياسية التي تحيط بمختلف البلدان، فهذه كلها عوامل تهم المستثمر بالدرجة الأولى على المدى القريب أكثر من أي شيء آخر والمطلوب من اقتصاديات البلدان في الشرق الأوسط العمل على تعزيز البنية التحتية للاستثمارات بحيث تكون بلدانهم جاذبة للاستثمار أكثر.
This post has already been read 57 times!