أثار قرار وزارة الداخلية تخصيص خط ساخن لتلقي البلاغات عن جرائم الجنسية والجوازات لغطاً كبيراً في الساحة الكويتية بين مؤيد ومعارض، بل إن الإثارة التي صحبت هذا القرار تجاوزت بمراحل الحديث واللغط المرتبط بقيام مجلس الوزراء ووزارة الداخلية بفتح تحقيق في ملفات الجنسية تبعه قرارات حكومية بسحب أو إسقاط الجنسية عن البعض في الأسابيع الأخيرة.
ابتداء فإنه يجب أن لا يغيب عنا أهمية الجنسية كهوية وطنية، وأن التمتع بالجنسية من أهم صور الارتباط بالوطن، ومن خلالها تقع على من يتمتع بها واجبات وله بالمقابل حقوق، ولذلك تعد الجنسية من أهم واخطر المسائل المرتبطة بالإنسان، ويتبع ذلك حساسية التعامل معها، ونظراً لأهميتها يتوجب على الدولة مواجهة العبث في ملف الجنسية، والقيام بالإجراءات اللازمة للتحقيق والتبين لكشف المزورين للجنسية والمخالفين لقانون الجنسية، وحسناً ما قامت به وزارة الداخلية من فتح تحقيق في ملفات الجنسية لبيان المخالف والتجاوز، والذي يتطلب محاسبة المتجاوزين والمخالفين، وأيضاً مساءلة المتسببين في ذلك من أطراف مسؤولة في الدولة.
قبل الخوض في تفاصيل قرار الخط الساخن يتطلب أن نسترعي انتباه القارئ الى جملة من القواعد الهامة المرتبطة بملف الجنسية، فملف التجنيس من الملفات المعقدة والمتشابكة منذ عقود، وقد تراكمت آثاره فاصبح هناك مراكز اجتماعية وقانونية متجذرة يتطلب الحذر والتأني وكثير من الذكاء والفطنة حين التعامل معها، وزاد تعقيد الملف غياب الرؤية والتصور المتكامل لمعالجته لدى السلطة التنفيذية بصورة عادلة أو بما يحقق المصلحة العامة، ومن جانب آخر فان ملف الجنسية ارتبط بقرارات لمجالس الوزراء المتعاقبة عبر عقود من الزمن، وكان تحت اشراف وإدارة قيادات ومسؤولين في الدولة تسبب بعضهم بشكل مباشر او غير مباشر في العبث بالتجنيس، وتكمن الصعوبة في معالجة ملف التجنيس في مدى توفر الإرادة والرغبة لدى السلطة التنفيذية بمحاسبة المتسببين السابقين في تجاوزات هذا الملف الخطير، كما يلاحظ بأن كل من الحكومة والمجلس في مراحل زمنية متعاقبة أتيح لهما فرصة التحقيق والتثبت من ادعاءات عدة للتزوير بالجنسية إلا إن كلاهما أخفق القيام بذلك، ومن أكثر المسائل ذات الحساسية الجانب الحقوقي لمسألة الجنسية مما جعل دولة الكويت في حرج أمام المنظمات الدولية لحقوق الأنسان، فالنظام التشريعي الكويت يحول دون نظر القضاء مساءل الجنسية، ويمنع أيضا أيضا المتضرر أو صاحب المصلحة من ضمانات الدفاع للتأكد من صحة قرارات وإجراءات وزارة الداخلية ومجلس الوزراء بشان الجنسية، والنظام القانوني يعطي الحق للجهات الرسمية بسحب الجنسية بناء على ادعاء التزوير، والتزوير كجريمة يعاقب عليها القانون لها أسس ومبادئ تتطلب تحقيق النيابة ونظر القضاء قبل التثبت من وقوع التزوير، وهو أمر غير متاح في موضوع الجنسية حالياً، وأخيراً من غرائب ملف الجنسية قيام بعض أعضاء السلطة التنفيذية في مراحل زمنية مختلفة السماح لبعض افراد الشعب استخدام ملف الجنسية كأداة للصراع السياسي والمصلحي من خلال الطرح العنصري بعيداً عن متطلبات تعزيز الوحدة الوطنية وتوفير العدالة الاجتماعية.
التساؤل الأهم لماذا أثار قرار تخصيص خط ساخن في موضوع الجنسية هذا القدر من الصخب والإثارة ؟، وللإجابة تفصيلاً نقرر بأنه بعد المقدمة السابق ذكرها يمكننا القول بأن قرار تخصيص خط ساخن للإبلاغ بشان تجاوزات الجنسية لم يكن قراراً سليماً أو موفقاً من حيث التوقيت أو الملاءمة للتعامل مع ملف الجنسية بأبعاده القانونية والاجتماعية، وجانبه الصواب لاعتبارات عدة نشير لها تباعاً.
أولى تلك الاعتبارات صدور القرار دون أن يكون قائم على أساس استراتيجية متكاملة لمعالجة ملف الجنسية بشكل جذري ومهني وعادل، فالدولة لا تمتلك استراتيجية واضحة الأهداف والمعالم بشأن ملف الجنسية ولا قراءة لطبيعة المشكلة وتجذرها وكيفية الخروج منها بشكل جذري، وأقصى ما لديها حاليا خطوات واجتهادات متفرقة وغير متماسكة ولا تحقق المنشود منها، ولا في هذه التحركات ما يكفل استمراريتها.
ثاني هذه الاعتبارات مرتبط بغياب الأولوية لدى السلطة التنفيذية في التعامل مع ملف الجنسية ، فعلى سبيل المثال هناك قناعة سياسية واجتماعية عند كثر من أهل الكويت بأن الجهات الأمنية بالدولة لديها معلومات متكاملة عن الكثير من المزدوجين من جنسيات مختلفة مخالفين لقانون الجنسية، ولم تقم تلك الجهات باتخاذ ما يلزم لمعالجة التجاوز على قانون الجنسية، ووزارة الداخلية لديها الفرصة بعمل تحقيقات داخلية لملفات الجنسية لبيان المخالفات والتجاوزات بافتراض قيامها، وتلك مهمة كبيرة وتتطلب وقت وجهد، فلماذا القفز الى خطوات جدلية في حين وزارة الداخلية لم تتخذ قرارات فيما هو متاح ومتوفر لديها من معلومات وامكانيات داخلية للتحقيق والتثبت.
وثالث تلك الاعتبارات عدم سلامة قياس خطوة الإبلاغ عن جرائم الجنسية بالإبلاغ المذكور عنه في جرائم الفساد المشار اليه في قانون هيئة مكافحة الفساد، فقانون هيئة مكافحة الفساد لم يعتبر مخالفات قانون الجنسية من جرائم الفساد التي تقع تحت طائلة الإبلاغ، ومن جانب آخر خلى قانون الجنسية من النصوص والآليات بخصوص الإبلاغ عن جرائم الفساد الخاصة بالجنسية، وأكتفى القانون فقط بشان البلاغات المرتبطة بإثبات الجنسية عن النفس والغير .
ورابع تلك الاعتبارات مرتبط بالأبعاد والآثار الاجتماعية لقرار الخط الساخن، فالقرار لم يأخذ بعين الاعتبار الآثار الاجتماعية، فعلى سبيل المثال فإن ملف الجنسية مرتبط بأفراد الأسرة الكويتية باعتبار الأسرة مكون اجتماعي ممتد الأنساب والوشائج، ومن واقع التجربة في مجال المحاماة والقانون من المحتمل أن يقوم بعض الأفراد بإلصاق التهم الخاصة بتجاوزات الجنسية على نحو غير صحيح لأسباب عائدة لخلافات أسرية أو اجتماعية وهو ما من شأنه إضعاف الروابط الأسرية اذا أسيئ استخدامه، كما أنه قد يساء استخدام بلاغ مخالفات الجنسية من قبل أطراف لديها خصومات سياسية أو مالية، ومن شان تلك البلاغات أن تسيء الى سمعة الأطراف المبلغ عنهم حتى لو ثبت لاحقاً عدم صحة تلك البلاغات، ونظراً لعدم مراعاة الأبعاد المترتبة عن القرار فإن من شان استمراره زيادة جرعة الانقسامات الاجتماعية والمساهمة في تمزيق وحدة المجتمع، ومع قناعتنا بتطبيق القانون بعدم السماح بازدواجية الجنسية إلا إنه من المفترض جدلاً إساءة استعمال البلاغات من خلال قيام اطراف خارج دولة الكويت بتهديد أطراف كويتية يتمتعون بازدواجية في الجنسية من خلال عملية الإبلاغ وذلك للقيام بأعمال مخالفة للقانون أو مضرة للأشخاص أو الوطن، وتلك أمور يتطلب مراعاتها والتعامل معها بحذر شديد.
والاعتبار الخامس مرتبط بتوقيت طرح القرار الخاص بالخط الساخن، فالقرار أتى في ظل أجواء انتخابية، وسيكون محل للاختلاف والتنازع والتراشق غير المسؤول، بل من المتوقع تصدره قائمة الطرح الانتخابي، وسيكون ذلك على حساب المصلحة العامة أو الوحدة الوطنية أو الهدف الذي صدر من أجله القرار وهو مواجهة تجاوزات تزوير او العبث بالجنسية.
وسادس تلك الاعتبارات ضعف مادة قرار الخط الساخن وغياب التنظيم الكامل للتعامل مع البلاغات المتوقعة، فالقرار غير مستند الى نصوص قانونية في قانون الجنسية تكفل التعامل مع البلاغات عن تجاوزات ملف الجنسية، ومن جانب آخر أشار القرار الى الإبلاغ عن جرائم الجنسية وبأنه سيتم التعامل مع المعلومات بسرية تامة، فالقرار لم يوضح طبيعة المعلومات المطلوبة، والقرار لم يشير الى صور الجدية المطلوبة من المبلغين خشية سوء استغلال تلك الوسيلة، والقرار لم يتضمن آليات تعامل وزارة الداخلية مع المبلغين خلاف موضوع السرية، ولم يذكر القرار آليات التعامل مع المعلومات التي سوف تتلقاها الوزارة وكيفية التثبت من صحتها، وهل سيتم إشراك النيابة العامة بالتحقيق في صحة ما تتلقاه وزارة الداخلية من بلاغات من عدمه، خاصة اذا كان محل الموضوع جريمة تزوير، وهي جريمة تختص النيابة العامة بنظرها والتصرف فيها، والقرار خلى أيضاً من إجراءات حماية المبلغين نظراً لخطورة وعواقب التصرف على المستوى الاجتماعي والقانوني، ولم يتضمن القرار كيفية التعامل مع البلاغات الكيدية في حال قيامها، وعليه فإن جميع ما سبق يؤكد ضعف بنية القرار واحتمالية سوء أثاره مستقبلاً .
الاعتبار السابع يغلب عليه الصبغة الفنية، فالحكومات المتعاقبة تفتقد المهنية أحياناً في إصدار القرارات المرتبطة بتنفيذ القوانين القائمة أو تلك المرتبطة بالتعامل مع القضايا محل العلاج والنظر، فآلية القرار لا يمثل سياسة عامة بالتعامل مع الجرائم والتجاوزات بصورة شاملة، فلا نجد مثلاً خطوط ساخنة لجرائم المخدرات أو الجرائم الأخلاقية ..الخ، وهو ما يعني الموسمية وغياب النظرة الشمولية للتعامل مع التجاوزات والجرائم، ومن جانب آخر يصدر القرار أحيانا ً دون مراعاة جوانب السلامة والاسس القانونية التي يقوم عليها القرار، وأحياناً يصدر القرار دون الأخذ بعين الاعتبار الآثار السلبية للقرار على شرائح مختلفة من المجتمع، وتصدر بعض القرارات دون الأخذ بمتطلبات الاستشارة اللازمة المسبقة من المختصين، وتصدر بعض القرارات دون مراعاة أهمية جس نبض بعض الشرائح المجتمعية لمعرفة ردود الفعل قبل صدور القرار لتلافي أية سلبيات، وتصدر بعض القرارات دون أن يكون مستوفي البيانات أو الوضوح اللازم فيه أو متطلبات التعامل معه مما قد يجعله مشوها وصعب التطبيق، ناهيك عن احتمالية الإغراق في كم البلاغات الواردة ومدى تمكن الأجهزة المختصة التعامل معها، وعلى ضوء ما سبق فإن القرار الأخير بشان الخط الساخن من تلك القرارات التي لم يراعي فيه المهارة الفنية لإصدار القرارات من الناحية المهنية والقانونية .
من جميع سبق ومع علمنا المسبق بحرص مسؤولي الداخلية على أمن الوطن والتعامل الجاد مع ملف الجنسية، ومع تأكيد دعمنا لما تقوم به الوزارة من تحقيق بشان ملفات الجنسية والوقوف بحزم ضد العبث بالجنسية، إلا إن الواجب الوطني يدعونا الى الطلب من وزارة الداخلية أعادة النظر بسحب القرار الخاص بالخط الساخن، وإخضاع قرار الخط الساخن لمزيد من الدراسة، كما ندعوا كل من مجلس الوزراء وفي المستقبل القريب مجلس الأمة العمل نحو صياغة إستراتيجية متكاملة للتعامل مع ملف العبث أو التزوير في الجنسية من الناحية القانونية والتنظيمية، مؤكدين أهمية مراعاة إشراك مؤسسات المجتمع المدني والأطراف الاكاديمية من أجل صياغة رؤية وخطة إستراتيجية متكاملة للتعامل مع ملف الجنسية باعتبارها قضية وطنية ومسؤولية مجتمعية، مع تأكيدنا أخيراً بأن أولى وأهم متطلبات التعامل الجاد مع ملف الجنسية منح القضاء الكويتي صلاحية التعامل مع مساءل الجنسية على نحو يوفر ضمانات العدالة لجميع الأطراف المعنية .
This post has already been read 1223 times!