الهندسة السياسية للشرق الأوسط من منظور واقعي .
مقدمة:
إن جغرافية الشرق الأوسط وتجدد معطى الصراع فيها كان محل دراسة العديد من الباحثين في العلوم الإنسانية والاجتماعية هذا لأن منطقة الشرق الأوسط اعتبرت مهدا للديانات السماوية الثلاث وهو ما اعتبر لبنة ومدخل أساسي لفهم طبيعة النزاعات والصراعات التاريخية التي عرفتها جغرافية المنطقة في هذا الصدد حاول العديد من الدراسات تقديم أطروحات نظرية وأخرى إمبريقية من خلال توظيف عدد من المقاربات و المتغيرات كإطار تحليلي يُمكن من خلاله فهم الصيرورة التاريخية و العوامل والمحدادت المتحكمة في تشكل البناء السياسي والاجتماعي لمنطقة الشرق الأوسط خاصة في أعقاب الحرب العالمية الأولى .
من خلال ما تقدم تهدف هذه الدراسة إلى توظيف الطرح الواقعي كمقاربة لتحليل عملية بناء وتشكيل الشرق الأوسط بعد سقوط الدولة العثمانية وهذا من خلال الارتكاز على في الهندسة السياسية ودورها في تشكيل دول الشرق الأوسط من منظور الواقعي. ولمعالجة إشكالية الموضوع حاولنا في هذه الدراسة طرح تساؤلات مفادها ؟ إلى أي مدى ساهمت الهندسة الواقعية في إعادة تشكيل الشرق الأوسط؟ وكيف يمكن فهم التاريخ السياسي للشرق الأوسط من منظور واقعي؟
للإجابة على التساؤلات السابقة ومناقشة إشكالية الموضوع حاولنا تقسيم الدراسة على النحو التالي :
- أطروحة ضعف الدولة العثمانية
إن الحديث عن تشكيل الشرق الأوسط ارتبط كليا بجملة الآثار السلبية الناجمة عن ضعف الدولة العثمانية مع نهايات القرن التاسع عشر حيث يرى العديد من الباحثين أن هناك مجموعة من الأسباب التي تضافرت لإنهاء حكم الدولة العثمانية وبداية تشكل دويلات الشرق الأوسط ولعل أبرز هذه الأسباب هو ضعف النظام الاقتصادي القائم في الدولة العثمانية نتيجة تدهور نظام الأراضي المعمول به لتسيير القطاع الزراعي باعتباره أهم قطاع اقتصادي في تلك الفترة وهو ما يصطلح عليه بالتركية tımar sistemi*[1] كما أعتبر هذا النظام الاقتصادي مصدرا للثروة وسيلة هامة لتحقيق الاكتفاء الذاتي في الدولة العثمانية، لكن ضعف الدولة وتعدد جبهات حروبها وانشقاقاتها الداخلية زاد من تكلفة حملاتها العسكرية و الدعم المتزايد لجيش الانكشارية وهو ما أدى بدوره إلى فرض زيادة كبيرة في حجم الضرائب على فئة الفلاحين وملاك الأراضي الأمر نتج عنه عدم تمكن الفلاحين وملاك الأراضي من دفع الضرائب ولجوئهم إلى عملية الاقتراض التي أدت في نهاية المطاف إلى خسارة جزء كبير منهم لأراضيه إما لصالح الدولة أو لصالح المُقرضين لتكون نتيجة ذلك بداية لتشكل ظاهرة الهجرة الداخلية نحو المدن وتلف العديد من المزارع ودخول الدولة العثمانية في حتمية ندرة وارتفاع المنتجات الزراعية وكمحصلة لهذا كله كان النتيجة هي بداية اندلاع أعمال شغب عديد ضد الدولة في مناطق معينة من الأناضول نتيجة عدم تخلي الدولة عن سياسة الضرائب المفروضة[2].
من جانب آخر وعلى الرغم من الدولة العثمانية استطاعت أن توحد عدد كبير من الدول تحت لواءهم الإمبراطوري ، لكن عامل الجغرافيا كثيرا ما شكل عائقا و تحديا أمام بسط نفوذها بشكل مركزي على كامل إقليم الدولة العثمانية مما أدى إلى ضعف في فرض سيطرة ومركزية الدولة على بعض الأقطار النائية التابعة لها على الرغم من أن الدولة العثمانية استخدمت نظام البايلك (beylik) على شاكلة النظام الفيدرالي المعروف في وقتنا الراهن بغية مواجهة عامل الجغرافيا وبسط كامل نفوذها على المناطق التابعة لها إلا أن هذا لم يتحقق بالصورة المخطط لها فعليا إلا في اسطنبول وقلب الأناضول بسبب قربهم الجغرافي من الحكومة المركزية، ونادراً ما وصلت إلى عمق المجتمعات في الأراضي الشاسعة التي حكمتها الدولة العثمانية
ومن الجانب السوسيو- سياسي فان المنطق الخلدوني وتصوره لمراحل الدولة يبدو واضحا في تحليل الصيرورة التاريخية التي مرت بها الدولة العثمانية إذ أن مرحلة الغلبة وبناء نظام حكم قوي الذي وصلت إليه الدولة العثمانية على إثر توظيفها لمتغير عصبية النسب وعصبية السبب كمنظور فعلي لتسيير وضمان قوة الدولة العثمانية بدأ يزول تدريجيا إثر إسناد الحكم لثلة من السلاطين غير الأكفاء و اهتمامهم المتزايد بالملذات الدنيوية وغفلتهم عن شؤون الدولة والرعية الأمر شكل حاجزا وعائقا أمام من خلفهم من السلاطين الذين كانت لهم الرغبة في إصلاح الضعف الذي اعترى أركان الدولة العثمانية، حيث أن سلسلة من السلاطين العثمانيين ووزراءهم سعى إلى تجديد الإدارة المركزية للإمبراطورية عبر إعادة تنشيط الجيش وإدخال الآلات الصناعية الحديثة على شاكلة النظام الإصلاحي الجديد الذي تبناه السلطان سليم الثالث خلال فترة حكمه الممتدة من 1789 إلى غاية 1807، و محاولة الإصلاح التي تمت في عهد السلطان عبد المجيد من عام 1839 إلى غاية 1876 والتي سميت بعصر عصر التنظيمات والتي حاول من خلالها محاكاة التطور الحاصل في الدول الأوروبية من خلال بناء السفن وبداية مشروع فتح سكة حديدية في عام1866 إضافة إلى ما قام به السلطان عبد الحميد الثاني من الإصلاحات الجدية بغية إعادة هيبة الدولة وهيمنتها لكن تغير المعطيات الداخلية والخارجية كانت تسير عكس أطروحاتهم الإصلاحية خاصة في ظل التنامي المتسارع للقوى الغربية[3] .
- الواقعية كمدخل لفهم تشكيل الشرق الأوسط
شكلت مسألة ضعف الدول العثمانية محور بداية لتصارع المصالح الدول الكبرى على غرار فرنسا وبريطانيا وروسيا وهذا عبر توسيع مناطق نفوذهما بالشكل الذي يتماشى ومتطلبات الثورة الصناعية وإمكانياتها العسكرية وبالتالي فإن المنظور الواقعي يعطي تفسيرا واضحا لمحاولة هذه الدول الثلاث خوض حرب ضد الدولة العثمانية واستخدمها لأدوات فعلية قائمة على فكرة زيادة التسلح واستخدام منطق التحالفات وتجسيد فكرة الامبريالية الاستعمارية بغية زيادة حجم المصلحة والهيمنة ، خاصة وأن السياسة الدولية في تلك الحقبة استندت إلى منطق القوة كأداة لفرض الهيمنة وكذا حل النزاعات الدولية القائمة وهو ما يوضحه قيام فرنسا باحتلال الجزائر في سنة 1830 واحتلال بريطانيا لمصر 1882 كبداية لفرض الهيمنة الأوروبية على الدولة العثمانية ، ومن جهة أخرى ما يعزز الطرح الواقعي هنا هو حجم الحروب التي جمعت بين روسيا والدولة العثمانية على مدار مئة سنة نتيجة الطموح الروسي المتزايد في الوصول إلى المياه الدافئة ورغبته في الهيمنة على المضيق الرابط بين البحر الأسود وبحر ايجة الأمر الذي نجم عنه حروب 1806-1812، 1828-1829، 1853-1856(حرب القرم)، وصولا إلى 1877-1878، معطى هذه الحروب فكك منطق هيمنة الدولة العثمانية على منطقة الشمال في مقابل هذا الضعف اتسع المجال الجغرافي الروسي ليضم أكثر من 15 دولة انعكست قوتها على بنية الجيش التابع للإمبراطورية الروسية حيث أصبح يضم جنود من أوروبا والقوقاز وآسيا وتركستان وسيبيريا وبذلك أسست روسيا بجغرافيتها الوعرة قوة إقليمية مهددة للمجال الجيوسياسي التابع للدولة العثمانية في ذلك الوقت[4] .
في سياق آخر استطاعت كل من فرنسا وبريطانيا أن توظف المتغير الاقتصادي كوجه آخر لفرض هيمنتها الاقتصادية وهذا عبر تقييد الاقتصاد العثماني من خلال ربطه بقروض مالية تم منحها للدولة العثمانية في خضم حرب القرم مع روسيا الأمر الذي تم استغلاله كإطار شرعي لحماية مصالح هذه الدول داخل التراب العثماني ومحاولة توظيفه كبداية لمشروع تفكيك الدولة العثمانية و استغلال مسألة تراكم الديون في تحريك الثورات والأقليات الدينية والعرقية المتواجدة داخل الدولة العثمانية وكذا محاولة دعمها بغية الانفصال وهو ما قامت به الإمبراطورية الروسية أثناء دعمها للأقليات الارثودوكسية بالشكل الذي نتج استقلال العديد من دول البلقان عن الحكم العثماني بطريقة مباشرة أو غير مباشرة وعلى رأسها صربيا[5]. هذه المحددات الواقعية كانت بمثابة الصورة الفعلية لفرض هيمنة الدول الغربية على الدولة العثمانية و تبلور فكرة استخدام القوة والحرب كآلية أخيرة لإنهاء الحكم العثماني .
- الحرب العالمية كمعطى أولي لبداية تشكل الشرق الأوسط .
أدت عملية إغتيال الأرشيدوق فرديناند في سراييفو في 28 يونيو 1914 إلى قيام النمسا بحملة عسكرية على صربيا الأمر الذي استطاع في وقت وجيز أن يُفعل منطق التحالفات العسكرية والمصالح المشتركة كمعطى عام لحجم الخلاف الذي وصلت إليه الدول المشاركة في الحرب العالمية الأولى حيث وقفت بريطانيا وفرنسا وروسيا في مواجهة النمسا و ألمانيا والدولة العثمانية، هنا لابد من الإشارة إلى أن وقوف الدولة العثمانية إلى جانب ألمانيا كان نتيجة التعاون المشترك الذي جمع مابين الدولتين خاصة في مجال الاقتصاد والسياسة العسكرية التي أفضت إلى تدريب العديد من القادة العسكرين العثمانيين على يد الألمان مما خلق مزيدا من الثقة وشكل نخبة من الانتليجنسيا العسكرية العثمانية ذات توافق كبير مع الأطروحات الألمانية بالإضافة إلى ذلك أدت مسألة إدارك الدولة العثمانية لمخطط و الطموحات التوسعية لكل من روسيا من الشمال وفرنسا وبريطانيا من الغرب كتحدي خارجي مهدد لاستمرارية الدولة إلى تحالفها مع ألمانيا ذات الصناعة العسكرية المتطورة و كذا تجسيدا لحجم المصالح المتبادلة خاصة في محور الاتفاق الداعم لمشروع السكة الحديدية بغداد– ألمانيا الذي أثار حفيظة بريطانيا باعتبارها مسعى سابق لها وبالتالي فهو انتكاسة لدبلوماسيتها [6]. كل هذا أدى في النهاية المطاف إلى إقرار الإمبراطورية العثمانية دخول الحرب إلى جانب ألمانيا عبر إسناد القيادة إلى إنفر باشا في 2 أغسطس 1914 رغبة منها في تشكيل تحالفا عثماني- ألماني لضرب روسيا وقد تم تفعيل هذا التحالف في 29 أكتوبر1914 إثر قصف الأسطول العثماني عدة موانئ روسية على البحر الأسود لتنتهي بعد ذلك الحرب العالمية الأولى بهزيمة ألمانيا و حلفائها بما فيهم الدولة العثمانية و تكون بداية فعلية لتقسيم الإمبراطورية العثمانية إلى دويلات الشرق الأوسط بزعامة كل من فرنسا وبريطانيا في حين برزت جمهورية التركية مستقلة خارج الهزيمة العثمانية[7].
- الهندسة الواقعية للشرق الأوسط
في خضم هذا الطرح لابد أن نشير إلى الهندسة السياسية باعتباره طرح جديد تمت الدعوة إلى تبنيه في السنوات الأخيرة بغية مساعدة الديمقراطيات الناشئة أو الدول الانتقالية التي كانت تعيش مرحلة من الصراعات لبناء أنظمة ومؤسسات سياسية وأنظمة انتخابية ذات توجه ديمقراطي مستدام و منتظم داخل المجتمعات المنقسمة[8]. لكن في دراستنا هذه المبنية على التصور الواقعي الذي عايشته جميع الدول في نهاية القرن الثامن عشر و القرن التاسع عشر نعني به المنظور السائد في تشكيل الدول في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى بحيث أن هذا الطرح وظف كأداة في تشكيل دول و أنظمة حكم تخدم منطق الهيمنة وتوازناتها في تلك المرحلة، وبالتالي فالهندسة السياسية الواقعية هي منظور غربي قائم على توظيف الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الجغرافية لصياغة وتشكيل أنماط دول وأنظمة حكم تتماشى ومنظور السياسة الدولية في تلك الفترة .
في هذا الصدد أدت نهاية الحرب العالمية الأولى إلى إعادة صياغة منطق الجغرافيا السياسية الخاصة بمنطقة الشرق الأوسط حيث تمت السيطرة على كل من العراق ومصر والعديد من دول الحجاز من طرف بريطانيا في حين سيطرت فرنسا على سوريا ولبنان، بحيث حاولت بريطانيا أساسا توظيف مجموع من المتغيرات السيوسيو-ثقافية الموروثة عن الحكم العثماني في إدارة الأقليات استنادا إلى المنطلق المرجعي الذي يرى أن القومية تتشكل و تترسخ بعد أن تتأسس الدول والحكومات التي تغذي بدورها هذه المشاعر للمحافظة على كيانها ضمن حدودها الإقليمية[9] . ففي خضم هذا الطرح برزت في بداية القرن العشرين تنامي كبير لثلاث قوميات في منطقة الشرق الأوسط متمثلة في القومية العربية و القومية التركية إضافة إلى القومية اليهودية خاصة وأن جذور القومية المنبثقة من رحم أوروبا الغربية وجدت بيئة ملائمة لها في الإمبراطورية العثمانية التي تشتمل على إثنيات وثقافات متنوعة تم تطوير مسألة الهوية والانتماء فيها على أسس غير وطنية قائمة على عنصر الدين والمكان كأحدى العوامل الأساسية في تشكيل الهوية الجماعية[10]. وهو ما استغلته القوى الكبرى كأداة لتنفيذ مشاريعها التقسيمية حيث تم دعم كل من الحركات والأقليات التابعة للدولة العثمانية وتشجيها على تبني الطرح القومي كأساس بديل لتشكيل دول منفصلة عن إدارة الحكم العثماني. من هذا المنطلق قامت بريطانيا بدعم الحركات القومية العربية في الشرق الأوسط ذات المرجعية اللغوية والدينية كأساس مركب للهوية الجماعية لشعوب الشرق الأوسط وربطها بمُعطى النسب الشريف كأساس آخر جامع مابين الهويتين واستخدامه كوسيلة لتشكيل دويلات في منطقة الشرق الأوسط على شاكلة دعم الانجليز لثورة الشريف حسين المناهضة لحكم الدولة العثمانية باعتباره شخصية إجماع نتيجةً لشرعيته الدينية المتأتية من أصوله الهاشمية ومكانته ضمن العديد من القبائل العربية وبالتالي فحدود هذه الفكرة كان كفيلا بإدارة منطقة الشرق الأوسط وقادر على إحداث شرخ كبير بين القوميات البارزة في الشرق الأوسط على شاكلة القومية العربية والقومية التركية خاصة على مستوى رأس المنتسبون لجمعية تركيا الفتاة بالشكل الذي يضمن سير المخطط البريطاني الذي كان بهدف في بداية أمره إلى إضعاف بنية نظام الملل الذي تقوم عليه الدولة العثمانية في تسيير الأقليات التابعة لحكمها وبالتالي تسهيل عملية تفكيكها ومن جهة أخرى ضمان عدم بناء وتشكل الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى وهذا عبر تفعيل التضاد الموجود بين القوميات في كل نقطة تماس بين القوميتين العربية والتركية ، وفي نفس السياق استطاع التقسيم الجديد للشرق الأوسط أن يضع نقاط حساسة في جغرافية المنطقة عبر تعمد الغرب وضع منطقة عازلة مابين تركيا و منطقة الشام والعراق من خلال تقسيم الأكراد ( القومية الكردية ) على حدود جغرافية متضاربة كل من تركيا والعراق وسوريا بدل تشكيل دولة خاصة بهم بغية منع أي تقارب مابين القوميتين العربية والتركية . ليتم في مقابل ذلك الاعتراف بالقومية اليهودية من خلال محاولة ترسيخ وطن جديد لقوميتهم في منطقة فلسطين لضرب أي ارتباط ديني في المنطقة خاصة بعد فشل مشروع دعم الشريف حسين القائم على فكرة تعزيز الهوية الدينية والقومية العربية كإطار يستمد منه شرعية الحكم وهو ما أشار إليه السير مارك سايكس في مذكرته السرية المعنونة بمشكلات الشرق الأدنى والتي عبر فيها انه لولا الدعم البريطاني لكانت حركة الشريف حسين قد سحقت مع بداية 1917 في إشارة منه أن دوره الوظيفي قد انتهى[11]. لتشكل بذلك بداية لاستخدام آلية جديدة قائمة على فكرة تعزيز منطق القبلية والغلبة كأساس آخر في إعادة تدوير الأنظمة السياسية في منطقة الشرق الأوسط بغية ضمان إدارة النزاع والأزمات التي تخدم المصالح الغربية المهيمنة ، خاصة وأنه لا يمكن أن نفصل معطى الدين و القبيلة عن الإطار العام المكون لسوسيولوجية الشرق الأوسط وقصد شرعنة هذه الهندسة الواقعية تم وضع إطار توافقي يحفظ توازنات ومصالح القوى الكبرى من خلال عقد اتفاق سري سُمي باتفاقية سايكس- بيكو التي سعت إلى تقسيم الشرق الأوسط وفق ما تقتضيه مصلحة كل من فرنسا وبريطانيا وروسيا ، بحيث أن أهم نقطة يمكن أن يٌشار لها في هذه الاتفاقية هي فكرة الوطن البديل لليهود تحت رعاية دولية فحسب اعتقادنا وإن كانت عملية إقرار وطن لليهود في منطقة مقدسة بفلسطين في شكلها الظاهر هو تشكيل وطن بديل للقومية اليهودية نتيجة ضغوطات بعض رجال المال ذو الأصول اليهودية على أنظمة الحكم الغربية و حرصهم الدائم على فكرة إيجاد وطن بديل، لكن بعيدا عن هذا حملت الاتفاقية مضمونا خفيا تمثل في إقامة دولة دخيلة عن النسق العام المكون لجغرافية الشرق الأوسط بغية ضمان عدم توحد القومية العربية ذات الأغلبية المسلمة في إطار دولة واحدة على شاكلة الدولة العثمانية وكذا ضمان توجه وحدة شعوب المنطقة نحو تحرير هذه المنطقة المقدسة بدل الخوض والاعتراض على فكرة التقسيمات الجديدة للشرق الأوسط. فمن خلال ما تقدم ذكره يمكن أن نحدد محور الهندسة الواقعية ودورها في عملية تقسيم الشرق الأوسط من خلال المخطط التالي:
المصدر: من إعداد الباحث .
خاتمـــــــــــــــــــــــــة
من خلال ما تقدم فان منطلقات الهندسة السياسية من منظور واقعي استندت في بدايتها إلى تكريس منطق الهيمنة الاقتصادية بما يخدم المصلحة الغربية من خلال إقامة علاقات اقتصادية مباشرة وغير مباشرة استثمرت فيها جميع الجهود للوصول إلى عملية تمكين الاقتصاد الأوروبي داخل حدود الدولة العثمانية ومن ثم رهن وتقييد الاقتصاد العثماني عبر القروض المالية كإجراء أولي نحو عملية التفتيت واستخدام المال للوصول إلى السلطة وتهييج المعارضة ضد الحكم العثماني وهو الأمر الذي سهل عملية كسب الحرب وبداية مشروع إعادة بناء الشرق الأوسط من خلال توظيف جميع المتغيرات الدينية والعرقية والقومية وصولا إلى تشكيل وحدات سياسية متنافرة تسهل من عملية إدارة أزمات الشرق الأوسط بالشكل الذي يحقق المصلحة والهيمنة. وبالتالي فان المصلحة الغربية لم ترم بجميع بيضها في سلة واحدة كما يعتقد الغرب فعملية هندسة دول الشرق الأوسط هي عملية معقدة تضافرت فيها جميع المتغيرات لتكون لنا مسلمة تاريخية بالنسبة لنا . ومنه نستنتج أن فهم المعطى التحليلي العام لهذه الواقعية يمكننا من تفسير العديد من الأزمات التي مرت و تمر بها منطقة الشرق الأوسط .
This post has already been read 114 times!