منذ عقود الدول الغربية تسعى لتأسيس شرق أوسط جديد من خلال فكرة تقسيم أو تعديل خارطة الشرق الأوسط، وهذا الأمر ليس من بنات أفكار الصحفيين، بل هو نتائج دراسات وأبحاث قام بها مختصون، وذلك وفق فكرة “منع الصغير من أن يكبر” أو “إشغال الصغار فيما بينهم”، ينسب ذلك للمؤرخ والمستشرق الإنجليزي برنارد لويس، ويصرح به الكاتب والمحلل العسكري الأميركي رالف بيترز في مقالاته وغيرهم، فالسياسة الغربية لطالما حملت هم يقلقها ألا وهو الشرق الأوسط به قوتين نائمتين، الأولى عدو أو منافس تاريخي “الإسلام” والثانية المشروع الصيني، الأول توقظه عقيدة ودين وصحوة تاريخية، والثاني بالفعل بدأ بالاستيقاظ من خلال التطور التقني والتكنولوجي والصناعي، الغرب بقياداته يدركون قيمة التاريخ ودروسه، والبعض لا زال يتباكي على الماضي فحسب.
إن من وسائل إعادة رسم شرق أوسط جديد هو افتعال العداوة الكامنة التي صنعتها قبضة الاستعمار قبل رحيله، وأيضاً افتعال المشاحنات الجغرافية بشعارات دينية كموقع فلسطين وقضية اليهود، والإسلام السياسي السني وأيضاً النظام الشيعي السياسي في إيران، فتجد شعار الكيان تحجيم إيران في صناعة البرنامج النووي، ومع لبنان القضاء على الحركات المسلحة الشيعية، ومع أهل فلسطين إرغامهم على قبول الواقع السياسي، ومع الخليج العربي التقدم خطوة بعد الخطوة نحو تقبل حضور الكيان والتعامل معه، بطريقة ناعمة عبر مصطلحات ظاهرها الصلح والتفاهم.
أما الآن التطبيق العملي الجديد أحد أمثلته تقليص الخيارات “تأطير” الحلول المُقترحة لمشاكل عالقة، فمن بعد مقاومة الكيان باليد والسلاح، ثم تراجعه إلى اللسان، إلى الوصول لرفضه أو عدم تقبله في القلب فقط، الآن أصبح التعامل معه ولكن شريطة أن يكون حق الشعب الفلسطيني قابل للمناقشة (لرفع الحرج) عبر إقامة المؤتمرات بحضور علم الكيان على الطاولة أمام الجميع، ومن هذه الخيارات التعامل معها حتى نجد الحل!، وأيضاً الإقرار أنها دولة استطاعت أن تحجم إيران وبرنامجها النووي، خصوصاً كون الأخيرة لطالما كانت كابوس على دول الخليج بل والمنطقة بشكل عام، وذلك من خلال تضخيم الخطر الإيراني إلى حد يفوق خطر الكيان، وهذا ما جعل البعض يميل للكيان في ضرباته لإيران، وأخرون شعروا أن إيران هي كالدولة الحمدانية أمام الثغور البيزنطية! والحقيقة أنهما شركاء في مؤسسة الوساطة الغربية والحرب بالإنابة في المنطقة لصالح “المتحكم”، وقمع طموح قيادة المنطقة للدول المتطلعة بذلك. لذلك أصبحت الوسيلة الجديدة والمنقذة تُمرر من خلال ما يعرف بحرب ١٢ يوم، وستكون حكومة الكيان المنقذ والمخلص للبعض من أخطار ومخاوف وهمية أو مختلقة.
الشرق الأوسط الجديد لن يكون بتغيير الأعلام وأسماء الدول!، ولن يكون سايكس بيكو جديد “بلس”، بل سيكون من خلال صناعة أمزجة جديدة وأفكار هجينة للفرد الشرق أوسطي حتى رأينا من يدافع عن الكيان ليس وفق قناعة أو اقتناع بل نكاية واحتراز، ومن يعلن ولاؤه لنظام الحكم في إيران إما لانتماء طائفي أو مناهضة لخصمها (كما يُعتقد)، وبقية تنشد حرية مختلقة لا تعرف إلا التمرد على الثقافة والهوية والدين! الشرق الأوسط الجديد يعاد تشكيله ببشر آخرين غيرنا نحن! وهم الجيل الجديد المتأثر بالأفكار الهجينة المشوهة باسم الثقافة الجديدة.
التاريخ يخبرنا أن المدن أو العواصم الدينية لا تسقط أو تحتل إلا من خلال السيطرة على بعض ما حولها، وإشغال البعض المتبقي فيما بينهم، ومن الأمثلة بيت المقدس لم يحتله الصليبيون في الحملة الأولى ٤٩٢هـ/ ١٠٩٩م، إلا بعد أن سيطروا على انطاكية والرها وتأسيس إمارات لهم عليها، وزادوا في إشعال الفتنة بين الإمارات كالسلاجقة والفاطمييون حتى أصبح الأخير الحليف لهم، وفي عصرنا نشاهد ونعايش أحداث مشابهة بطرق ووسائل مختلفة ومتناقضة فمع البعض الحرب، والبعض الأخر ما يسمى بالتطبيع، وكلا الطريقين حتماً سيفقدنا فلسطين بالكامل، إن لم نقاوم أو إظهار أننا نقاوم، هذه ليست نظرة سلبية بل واقعية لعلها توقظ البعض وتصفع بآخرين.
من كلمات برنارد لويس عبر مقابلة له مع إحدى وسائل الإعلام ٢٠ مايو ٢٠٠٥م: إن العرب والمسلمين قوم فاسدون مفسدون فوضويين… وإنه من الضروري إعادة تقسيم الأقطار العربية والإسلامية إلى وحدات عشائرية وطائفية ولا داعي لمراعاة خواطرهم.
ما بعد النقطة:
التطبيع مصطلح سياسي حديث قيل لتقبل وجود الكيان منذ ١٩٧٩م إلى ٢٠٢٠م، وهذه الممارسة السياسية من وسائل التقسيم الهجينة، ونحن الآن نعيش فترة “التلميع” وذلك من خلال إظهار خصم للكيان، غير مريح لدول المنطقة! ثم يحاول الإعلام أن يوجه الرأي العام بشعار “الأخف ضرر”.
This post has already been read 522 times!

