أعلنت الفصائل الفلسطينية يوم 22 يوليو الجاري، توقيعها اتفاقاً للوصول إلى “وحدة وطنية شاملة” تضم كافة القوى في إطار منظمة التحرير، وتشكيل حكومة توافق وطني مؤقتة تدير شؤون الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس، وتم اللقاء برعاية صينية لمؤتمر وطني فلسطيني حضره 14 فصيلاً فلسطينياً في بكين، بدعوة رسمية من الصين واستمر لمدة يومين.
البيان والفصائل المشاركة
أكدت الفصائل في بيان: “اتفقت الفصائل الوطنية خلال لقاءاتها في الصين على الوصول إلى وحدة وطنية فلسطينية شاملة تضم القوى والفصائل الفلسطينية كافة في إطار منظمة التحرير، والالتزام بقيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس، طبقاً لقرارات الأمم المتحدة، وضمان حق العودة طبقاً لقرار 194″، و”انطلاقاً من اتفاقية الوفاق الوطني التي وقعت في القاهرة بتاريخ 4 مايو/ أيار 2011، وإعلان الجزائر الذي وقع في 12 أكتوبر/ تشرين الأول 2022، قررت الفصائل الاستمرار في متابعة تنفيذ اتفاقيات إنهاء الانقسام بمساعدة مصر والجزائر والصين وروسيا”.
وشاركت في اللقاء في الصين كل من الفصائل: “حركة فتح، حركة حماس، الجهاد الإسلامي، الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، حزب الشعب الفلسطيني، جبهة النضال الشعبي الفلسطيني، حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية، الجبهة الشعبية “القيادة العامة”، الاتحاد الديمقراطي الفلسطيني “فدا”، جبهة التحرير الفلسطينية، جبهة التحرير العربية، الجبهة العربية الفلسطينية وطلائع حرب التحرير الشعبية (قوات الصاعقة)”.
وشارك في الحوار أيضاً مبعوثون دبلوماسيون لدى الصين أو ممثلوهم من مصر والجزائر والسعودية وقطر والأردن وسوريا ولبنان وروسيا وتركيا، وفق بيان صادر عن وزارة الخارجية الصينية.
إشكالية الانقسام وتفكك الجبهة الداخلية الفلسطينية
عاشت الساحة الفلسطينية انقساماً سياسياً وحتى جغرافياً بعد عام 2007، بعد سيطرة حركة “حماس” على قطاع غزة وتشكيلها حكومة هناك، في حين بقيت الضفة الغربية تحت إدارة منظمة التحرير وحركة فتح، برئاسة محمود عباس، بعد خلاف معمق بين “حماس” و”فتح” في ذلك العام حول تشكيل الحكومة والبرلمان.
هذه الانقسامات، قادت إلى لقاءات متعددة بين الفصائل الفلسطينية بهدف استعادة وحدة الصف وتوحيد النضال الفلسطيني، فشهدنا في السنوات الأخيرة اجتماع الجزائر في أكتوبر/ تشرين أول 2022، واجتماعاً في مصر في يونيو / حزيران 2023، ليأتي أخيراً اجتماع الصين الذي يؤمل منه تحقيق اختراق يتجاوز ما عجزت عنه الاجتماعات السابقة، خصوصاً أن تأكيدات مسؤولي الفصائل تصب في صالح تنفيذ بنود الاتفاق، حيث قال الأمين العام لحزب المبادرة الوطنية الفلسطينية مصطفى البرغوثي، إن الفصائل ستبدأ وبشكل فوري تطبيق اتفاق المصالحة الموقع في العاصمة الصينية بكين “بخطوات عملية”.
نقاط الضعف والقوة في الاتفاق
أولى إشكاليات الاتفاق في الصين ونقاطه الـ 8 الرئيسية، هي عدم الإشارة إلى أي جدول زمني للتنفيذ، والذي تتقاطع فيه الآراء أنه نقطة ضعف رغم بعض نقاط القوة فيه.. فالتفاصيل الخاصة بالاتفاق تضع كثيراً من العُقد.
من أبرز بنود الاتفاق، الوصول إلى وحدة وطنية فلسطينية شاملة تضم القوى والفصائل الفلسطينية “كافة في إطار منظمة التحرير” والالتزام بقيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس “طبقا لقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة” وحق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال وإنهائه “وفق القوانين الدولية وميثاق الأمم المتحدة”، وأن يتم تشكيل “حكومة وفاق وطني مؤقتة بتوافق الفصائل وبقرار من الرئيس الفلسطيني”.
إشكالية التزام الفصائل ومنها “حماس” بقيام دولة فلسطينية وفق القرارات الدولية، تنبع من أن الاتفاق لم يشر إلى “المقاومة الشعبية السلمية” التي يعتمدها الرئيس الفلسطيني “محمود عباس” كأداة للتحرير، لكنه لمّح إلى مساحة واسعة من حق المقاومة وفق ما تقره القوانين الدولية، بما يشمل ضمناً المقاومة المسلحة التي تتبناها عدة فصائل من بينها “حماس”.
التحديات الدولية ترتبط برفض الفصائل كل أشكال الوصاية ومحاولات سلب الشعب الفلسطيني حقه في تمثيل نفسه أو مصادرة قراره الوطني المستقل، وهي إشارة مباشرة إلى خطط أميركية وإسرائيلية لإدارة غزة بعد الحرب بقوات دولية وعربية.
هذا ولم يأخذ البيان بعين الاعتبار تأثير العوامل الخارجية في ملف المصالحة، حيث تتقاطع آراء المختصين أن الانقسام هدف غُذي وعُزز بأدوات ومنهجيات إسرائيلية أميركية غربية.
من زاوية أخرى، فإن شروط حركة “فتح” التي استبقت الحوار بتحديد مطالبها وعلى رأسها:
انضواء الجميع تحت راية منظمة التحرير الفلسطينية.
الموافقة على ما وقعت عليه المنظمة من التزامات.
الالتزام بالقانون الدولي وحل الدولتين.
وهي قد تسبب صدامات لاحقة مع “حماس” وبعض الفصائل الأخرى.
وكشفت معلومات أن هناك تبايناً في الآراء مع “حماس” بشأن قرارات الشرعية الدولية، وأكدت مصادر أن حركة “فتح” تتفق مع “حماس” على الأطر العامة للقرارات الدولية، إلا أنها تختلف معها بالصياغة.
جاء بيان الاتفاق ليتحدث في قضايا فضفاضة ولم يورد تفاصيل حول البعد الزمني والأدوات وآليات التنفيذ، وتُرك الأمر لجولات تفاوضية قد تمتد لسنوات، وقد يتم عرقلة التنفيذ بمجرد الدخول في التفاصيل، ليبقى الاختبار الحقيقي مع البدء في حوارات التنفيذ، وهذا ما شهدته حوارات الجزائر التي وقع فيها تقارب مماثل في أبريل/ نيسان الماضي، دون أن يحدث اختراق حقيقي يُنهي الانقسام.
من القضايا التي كانت بحاجة لتوضيح وتفصيل هي “أسس العلاقة الفلسطينية الداخلية وكيفية تعزيزها وإنهاء حالة الانقسام المستمر منذ 17 عاماً، ومعالجة الانفصال الجغرافي والديمغرافي، فضلاً عن ممارسات السلطة في الضفة والحرب على غزة، وكيفية توحيد المؤسسات وآلية وكيفية وأسس تشكيلها، وإدارة قطاع غزة، وكيفية انتقال السلطة ومدى وكيفية وشكل المشاركة فيها”، دون أن ننسى أن الحوار لم يطرح موضوع الحريات والاعتقال السياسي ودور الأجهزة والمؤسسة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية، وتقييد عمل المؤسسات بالضفة.
لكن الاتفاق بمجمله شامل للنقاط النظرية ويستعرض كافة القضايا والمرتكزات الأساسية لموضوع الحوار الفلسطيني من بداياته وحتى الآن، وحتى ما قبل الانقسام المستمر منذ 2007.
كما يمكن اعتبار التقارب في وجهات النظر حول قضايا تتعلق بمنظمة التحرير، والتحرر الوطني، والأهداف الأساسية منه وإقامة الدولة الفلسطينية، من إيجابيات البيان وقوته، الذي جاء محاولة جديدة علها تكسر حالة الصمت في المشهد الفلسطيني.
الدور الصيني في المشهد الفلسطيني
لم تأتي رعاية الصين لاتفاق الفصائل من فراغ، حيث نشهد في السنوات الماضية توجهاً صينياً لمنطقة الشرق الأوسط ضمن سياسات الرئيس شي جينغ بينغ، بهدف تحقيق أكبر قدر من المناورة وامتلاك الأوراق أمام الولايات المتحدة، وهذا ما شهدناه مؤخراً برعاية الصين لتطبيع العلاقات بين المملكة العربية السعودية وإيران في مارس/ آذار 2023.
أما القضية الفلسطينية وإدارة العلاقة مع الكيان الإسرائيلي، باتت بالنسبة للقيادة الصينية طريقة للمناورة في مواجهة واشنطن بعد أن اقتنعت الصين أنها أقوى بكثير من تلك الدولة الضعيفة في العقود الماضية فأصبحت مناوراتها تهدف لتقويض الدور الأمريكي وإضعافه على عكس الأربعينات والخمسينات في القرن العشرين، حين كانت بكين تسعى إلى كسب دعم واشنطن في شتى المجالات عبر التقرب من إسرائيل واليهود وفق رؤية القيادة الصينية حينها.
تطور الموقف الصيني اللاحق اعتبر الدولة الصهيونية بوصفها أحد قواعد الإمبريالية الغربية في الشرق، وهي الدولة التي دعمت الأنظمة القومية والماركسية في مصر والجزائر وجنوب اليمن وسوريا فضلاً عن حركات التحرر الوطني وفي مقدمتها النضال الفلسطيني.
من المواقف التاريخية لتطور الموقف الصيني جهود وزير الخارجية الصيني تشو إن لاي لإدراج القضية الفلسطينية على جدول أعمال المؤتمر الأفروآسيوي في باندونغ عام 1955 بوصفه رمزاً لدعم بكين “لنضالات الشعوب المضطهدة”.
ثم جاء عام 1965، الذي توجت فيه بكين تضامنها مع الفلسطينيين باعترافها الرسمي بمنظمة التحرير الفلسطينية بعد أشهر من تأسيسها وهي أول دولة غير عربية تعترف بالمنظمة.
كما حافظت الصين على الخطوط العريضة لسياستها الخارجية نحو القضية الفلسطينية، خطابياً على الأقل، فتمسكت بالمطالبة بقيام دولة فلسطينية كسبيل أوحد لحل الصراع، ونادت باستئناف المفاوضات والحلول السلمية، ونددت غير ما مرة بالاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين.
العلاقة الصينية الإسرائيلية
بدأت العلاقات مع محاولة الصينيين استضافة اليهود الفارين من أوروبا وتوطينيهم في الصين -قبل إعلان دولة الكيان المحتل عام 1948- كهدف رأى فيه الصينيون قبل سيطرة الشيوعين على الحكم، وسيلة لضمان الدعم الغربي ضد اليابان من جهة، وتحسين الواقع الاقتصادي من جهة أخرى. لتمر بعدها العلاقة بتعقيدات متداخلة تركزت بالنهاية على الجانبين التكنولوجي والاقتصادي واليوم الصين تصنف كثاني أكبر شريك تجاري لإسرائيل بعد الولايات المتحدة إثر زيادة حجم التجارة بين البلدين بنسبة 130% بين عامي 2013 و2022 لتصل إلى أعلى مستوى لها على الإطلاق عند 17.6 مليار دولار أميركي.
وفي عام 2018 أبرمت الصين 73 صفقة استثمار أجنبي مباشر في مجالات التكنولوجيا المتقدمة في دولة الاحتلال، وهو توجه هيمن على مسار العلاقات خلال العقدين الأخيرين، إذ يرصد معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي زيادة مطّردة في الاستثمارات وعمليات الدمج والاستحواذ الصينية في قطاع التقنية الإسرائيلي بين عامي 2007 و2020.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن التقارب التقني والاقتصادي بين الصين وإسرائيل بدأ بالتراجع النسبي وحتى قبل حرب غزة الأخيرة، حيث انخفضت التجارة عام 2023 بنسبة 18% عن العام السابق إلى 14.6 مليار دولار، في حين انخفض عدد صفقات الاستثمار الأجنبي المباشر بشكل مطرد منذ عام 2019 ليسجل 18 صفقة فقط عام 2022، وهو ما يعني أن صورة إسرائيل باعتبارها “مركزاً للابتكار” و”أمة للشركات الناشئة” بدأت في التآكل، على الأقل من وجهة نظر بكين.
ويبدو أن الصين غاضبة من استجابة تل أبيب للضغوط الأميركية بتقليص استثمارات الصين واستحواذاتها في مجال التقنية، وهي المسألة الخلافية بين واشنطن وتل أبيب. ومن مؤشراتها السابقة عام 1999، انهارت صفقة لبيع طائرات فالكون الإسرائيلية للإنذار المبكر بسبب ضغوط واشنطن؛ التي أصبحت أشد في السنوات الأخيرة وهو ما دفع تل أبيب إلى عرقلة العديد من صفقات الاستحواذ المرتبطة بالصين وإنشاء نظام جديد للاستثمار الداخلي عام 2019 يراعي “دواعي الأمن القومي”.
بذلك شهدنا تراجعاً للحضور الصيني في سوق التقنية الإسرائيلي وبالتالي تراجع الأهمية الوظيفية لإسرائيل لدى الصينيين. ويمكن القول إن عام 2018 هو النقطة التي بدأت عندها الشراكة التقنية بين البلدين في التراجع، ودخلت معها العلاقات الثنائية في طور جديد من البرود.
واليوم، توحي تقاطعات المشهد ومساراته المستقبلية أن بكين باتت ترى في القضية الفلسطينية والعلاقة مع إسرائيل ورقة مناورة لتحقيق أهداف الصين في الفضاء الجيوسياسي الأوسع، وفي مقدمة هذه الأهداف تقويض النفوذ العالمي للولايات المتحدة ورفع مكانة الصين وسط دول ما يُعرف بـ “الجنوب العالمي”، وتعزيز صورة بكين أمام دول العالم غير الخاضعة للرؤية الغربية ضمن استغلال مثالي واقعي للمتغيرات الدولية.
كواليس الموقف الصيني في حرب غزة
ورقة المناورة أمام واشنطن وتحسين صورة الصين أمام بقية دول العالم تقدم لنا تفسيراً منطقياً لموقف الصين من حرب غزة بعد “طوفان الأقصى” ثم رعايتها لاتفاق الفصائل الفلسطينية.
ويبدو أن بكين تعتبر حالياً “الصراع الفلسطيني الإسرائيلي” ساحة مواتية لتحدي الهيمنة الأمريكية عبر مواصلة انتقاد سياسة واشنطن في الشرق الأوسط ودورها في الصراعات والأزمات العالمية بشكل عام.
ظهرت التصريحات الرسمية الصينية مفاجئة للمراقبين ولتل أبيب بعد حدة عدائها لإسرائيل.
في البداية، امتنعت الصين عن إصدار أي إدانة صريحة لحركة “حماس” وفصائل المقاومة الفلسطينية بعد عملية “طوفان الأقصى”، وعلى النقيض سارع المسؤولون الصينيون إلى التأكيد على أن الغارات الجوية الإسرائيلية “تجاوزت الدفاع عن النفس” وأدانوها باعتبارها “عقاباً جماعياً” للفلسطينيين، في حين ألقت وسائل الإعلام الصينية باللوم على الولايات المتحدة في تأجيج الصراع.
ختاماً ومن منظور واقعي وفهم للسياسة الصينية لا يجب أن نعتبر التحركات الصينية موقفاً داعماً للفلسطينيين أو معادٍ لإسرائيل بصورة كليّة، بل يأتي ضمن رؤية بكين لمصالحها الإستراتيجية الكبرى، التي تتمحور حول الولايات المتحدة وليس حول إسرائيل.
فالصين تتمحور أهدافها التكتيكية المرتبطة بحرب غزة الأخيرة أن لا تتوسع إلى الممرات التجارية الحيوية في باب المندب والبحر الأحمر على نحو يضرب مصالحها التجارية بأضرار كبيرة، مع التركيز على هدفها الاستراتيجي الأبرز والمنافع المباشرة، عبر الاستفادة من التعثر الأميركي في الشرق الأوسط وغيره من الساحات خارج آسيا لتحسين وضعها الإستراتيجي في جوارها المباشر، خاصة في تايوان وبحر جنوب الصين.. دون أن تجاوز سقف التصريحات الخطابية أو الرعاية للمصالحات في دعم الفلسطينيين.
فـ بكين مندمجة بشكل كبير في النظام العالمي اقتصادياً وتجارياً، وحتى في المستوى الأمني، لذلك فالراجح أنها تهدف على الأرجح إلى “إصلاح” هذا النظام وتحسين موقعها فيه في الفترة الحالية وليس تدميره، ما يعزز فرضية أنها أقل ميلا إلى تحدي الولايات المتحدة، بل فقط مناكفتها واستكثار أوراق المناورة ضدها.
This post has already been read 93 times!