تظل فكرة الثقافة شغل العقل البشري الشاغل على مرِّ العصور.
يعتقد الفيلسوف والرئيس علي عزت بيغوفيتش أن الثقافة ليست إلا تأثير الإنسان على نفسه، يعني أنها الفن الذي يكون به الإنسانُ إنساناً، أو إنها الخلق المستمر للذات، من هذا المنظور استطاع بيغوفيتش أن يصوِّر نظرته لتعامل الإنسان مع الواقع من حوله، ويحدَّ الحدود بين ذاته وثقافتها.
نلاحظ أن بغوفيتش لا يفرق بين الثقافة والدين، ولا يعتبرهما شيئين متباينين البتة، بل إنه صرَّح في كتابه الإسلام بين الشرق والغرب أن الثقافة هي تأثير الدين على الإنسان، فجعل الثقافة هي الدين، وجعل الدين هو الثقافة.
لفلسفة علي عزت طابعها الاستثنائي الخاص حيث إنه السياسي والمثقف في آنٍ واحد، فقد جمع في تجربته الفكرية والعملية ما يندر أن يجتمع لشخصية أخرى في القرن المنصرم، فكان الكلام الذي يصوغ به بغوفيتش واقعنا الحديث ويزيل لنا فيه الحدود بين الذات والثقافة ويمزجهما مزجاً في قالب واحد أحرى أن يُتلفت إليه في هذه الأيام، أيام الحداثة وما بعدياتها والدول المدنية والأنظمة العالمية الموحدة.
ما الإنسان إلا ثقافته، ولا كيان لأحدنا من دون أفكاره التي في رأسه. من دون أفكارنا سنكون مجرد جثث مُعلَّقة في الهواء، ومن بدون طرقنا الخاصة لتعاملنا مع أفكارنا سنكون مجرد جثث مُعلَّقة في الهواء لكنها تهذي من تلقاء نفسها وتخبط خبط عشواء في ذلك الهذيان المستمر، وتجنُّباً لهذه الصورة المستبشعة اخترع الإنسان ما يسمى بـ “الثقافة” أو “الطريقة الخاصة التي يتعامل فيها مع الأفكار والذوات”.
استطاع الإنسان على مرِّ العصور أن يحدد قيماً وأفكار يسعى إلى تحقيقها والتعامل معها، فنتج عن هذه العملية ما يسمى بالثقافة، وعن الثقافة واستعمالاتها وسوء استغلالها نتج ما يسمى بالأزمات الثقافية، وإذا ما اعتمدنا تعريف بيغوفيتش للثقافة وأنها هي والدين شيء واحد فإن الإنسان محدود بحدود ثقافية لا يستطيع تجاوزها، وإذا ما تجاوزها فإنه سيكون لا محالة واقفاً في مواجهة نفسه وهو ينحرها بسكين الجهل ويُهدِّم أركانها بمعاول اليأس والفردانية والمقت وسوء التصرُّف والانسلاخ من الحياة. أوصاف لا يمكن أن يقبلها عاقل على نفسه.
وحتى لو لم نعتمد تعريف بيغوفيتش واعتباره الدين والثقافة شيئاً واحداً فإن الثقافة جزء من الدين وبلا شك، والدين أيضاً جزء من الثقافة، فلا مناص لنا من وضع حدود بين الصحيح والخاطئ والحق والباطل في طرق التعامل مع الأفكار والأشياء من حولنا، وهذه الحدود هي السياق الآمن والأمان الكامل للإنسان في مراحل حياته الذي يعيشها على هذه الأرض، ويبقى السؤال المهم الذي يتبادر لذهن كُلٍّ مِنَّا: من هو الذي يحد هذه الحدود التي تقيد العملية الثقافية والفكرية وتجعلها في سياق آمن حتى تتحول من عبث مجرد إلى منفعة حقيقية؟ والجواب: ليس لأي أحد أن يحد هذه الحدود، بل الذي يحددها هو من يملك الحق في تحديدها، أعني المُشرِّع الأعلى وهو الله سبحانه، ثم المُشرِّع الأدنى وهم رجال القانون الذين يجب أن يكونوا نخبة رجالات المجتمع وعُصارة مُفكِّريه، المستنيرين بنور الوعي، الحاملين هموم أُمَّتهم، العارفين بالماضي والمدركين للحاضر والملهمين للمستقبل. هكذا نحقق الأمن الثقافي.
This post has already been read 305 times!