تعيش العلاقات القطرية الأوروبية في صعيدها التجاري، أزمة متصاعدة مع تهديد الدوحة بوقف تصدير الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا.. حيث ترتبط قطر بعقود طويلة الأجل لتوريد الغاز إلى دول الاتحاد الأوروبي.
مرد الأزمة متعلق أساسًا بتشريع أوروبي خاص حول الاستدامة المؤسسية وقضايا حقوق الإنسان حيث تطالب قطر بإجراء تعديلات على ذلك التشريع الذي لم يدخل حيز التنفيذ، في ظل طلب أوروبي متزايد على الغاز القطري بسبب منعكسات الحرب الروسية على أوكرانيا.

محركات الأزمة ودوافعها
أصدر الاتحاد الأوروبي قرارًا جديدًا يطالب قطر بدفع التعويضات “الباهظة للغاية” للمجتمعات الأوروبية بسبب انبعاث الغازات الناتجة عن حرق الغاز في الأرض الأوروبية.
تستند المطالبات الأوروبية إلى قانون “العناية الواجبة” الذي أقرّه الاتحاد الأوروبي رسميًا شهر يونيو/حزيران 2024، حيث يُلزم هذا القانون الشركات الكبرى، خصوصًا العاملة في قطاعات حيوية كقطاع الطاقة، بالتحقّق من امتثال سلاسل التوريد التابعة لها، لمعايير صارمة تتعلّق بحقوق الإنسان، وظروف العمل، وحماية البيئة.
أي يرتكز تشريع “توجيه العناية الواجبة للاستدامة المؤسسية” على إلزام الشركات الكبرى بمعالجة التأثيرات السلبية المرتبطة بحقوق الإنسان والبيئة ضمن سلاسل التوريد العالمية الخاصة بها.
ملاحظة: التشريع حظي بتأييد واسع على الصعيد الأوروبي، إذ يشمل اليسار والخضر والوسطيين، بالإضافة إلى نواب من يمين الوسط.
دوافع الاعتراض القطري
وفق تقاطع آراء الخبراء في شؤون الطاقة، يمثل قانون “العناية الواجبة” مصدر قلق ضمني لقطر، حيث يحمل في طياته تدخلًا مباشرًا في سيادة الدوحة، حيث يفرض أعباء تنظيمية ومالية غير مقبولة.
ولا تقتصر التزامات القانون على شركة قطر للطاقة، بل تمتد لتشمل سلسلة الإمداد بأكملها، من الموردين الكبار إلى الشركات الصغيرة، (يشير البعض أن “شركات القهوة” المتعاملة مع “قطر للطاقة” يمكن أن تشملها الغرامات).
وتجدر الإشارة أن تنفيذ هكذا قانون يستوجب توفر موارد ضخمة، فيما قد تصل الغرامات التي ستطبق في حال عدم الامتثال لما ورد فيه من التزامات، إلى 5 % من الإيرادات العالمية، وهو ما ترفضه قطر.
لذلك وأثناء الجلسة الافتتاحية لمعرض ومؤتمر أبوظبي الدولي للبترول “أديبك”، اعتبر وزير الطاقة القطري، سعد بن شريده الكعبي أن سياسة قطر تجاه الشراكات وتحول الطاقة لم تتغير، مؤكدًا التزام قطر الدائم بمبادئها في خفض الانبعاثات والحاجة المستقبلية للنفط والغاز.. وإذا لم يعدل أو يلغَ التشريع الأوروبي، فإن الدوحة ستوقف صادرات الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا بشكل مؤكد.

اعتراضات دولية
لم تقدم قطر فقط اعتراضها على القانون، بل دعمتها واشنطن في هذه التخوفات، حيث تم توجيه رسالة مشتركة قبل شهر، حملت توقيع وزير الطاقة الأميركي كريس رايت، مع الوزير القطري، أكدت أن الصيغة الحالية من التوجيه تمثل تهديدًا وجوديًا لقدرة القارة الأوروبية على تأمين إمدادات طاقة موثوق بها وبأسعار معقولة، وتعرّض تنافسية الصناعة الأوروبية واستقرار أسواقها للخطر.
كما شددا أن تطبيق التوجيه الأوروبي بشكله الحالي سيخلق “مخاطر كبيرة أمام القدرة على تحمّل تكاليف إمدادات الطاقة الحيوية للأسر والشركات في أوروبا”، كما يهدد نمو الاقتصاد الصناعي الأوروبي ومرونته.
بدوره، أوضح دارين وودز، الرئيس التنفيذي لشركة إكسون موبيل، قبل يومين أن المشرعين في الاتحاد الأوروبي بدأوا في الاستماع إلى الأصوات المعارضة للقانون، لكنه لم يلحظ حتى الآن أي تغييرات ملموسة عليه، ما يجعل شركته تبتعد عن ممارسة أعمالها في أوروبا ما لم يجر الاتحاد الأوروبي تعديلات جوهرية على قانون الاستدامة الجديد الذي يهدد بفرض غرامات تصل إلى 5% من الإيرادات العالمية على الشركات.
أوربيًا، تشهد أوروبا انقسامًا بين دولها حول هذا القانون، فألمانيا وفرنسا تريدان إلغائه كاملًا بدعوى أنه يضرّ بالقدرة التنافسية للصناعات الأوروبية، أما إسبانيا فتطالب بالإبقاء على القواعد لدعم أولويات أوروبا في حماية البيئة ومكافحة التغير المناخي.
أهمية قطر في سوق الطاقة
تملك الدوحة مكانة رائدة بين أكبر منتجي الغاز الطبيعي المسال في العالم، مع الولايات المتحدة وأستراليا وروسيا.. وتوفر قطر نحو 14% من حاجة دول الاتحاد الأوروبي من الغاز الطبيعي المسال،
ومع دخول روسيا في الحرب ضد أوكرانيا عام 2022، سجّل الطلب الأوروبي على الغاز القطري ارتفاعًا ملحوظًا وسط مخاوف من أزمة إمدادات في القارة.
ووقعت الدوحة خلال الشهور الأخيرة اتفاقيات جديدة لتصدير الغاز مع شركات كبرى مثل توتال الفرنسية وإيني الإيطالية وبترونت الهندية وسينوبك الصينية.
أوروبيًا، تشير التقديرات أن تضيف أوروبا نحو 160 شحنة إلى وارداتها من الغاز الطبيعي المسال خلال شتاء عام 2025، وسط تحديات تراجع المخزونات وانخفاض التدفقات من روسيا والجزائر.
ما يقتضي بطبيعة الحال إلى زيادة اعتماد القارة على الغاز الأميركي والقطري.

ختامًا، تلوح الدوحة بورقة إيقاف التوريد للأوروبيين كرد فعل مبرر للقانون الذي يمكن اعتباره عرقلة غير منطقية تستهدف اكتساب أموال لصالح القارة الأوروبية تدفعها لتحقيق رفاهية شعبها، على حساب غيرها (منطق أوروبا القديم في الاستعمار) لكن يبقى أمام المفاوض القطري تحدي مواجهة غرامات إلغاء عقود التوريد والشروط الجزائية، وقد يكون هذا أحد أهداف الطمع الأوروبي الضمني.
This post has already been read 284 times!

