• 7 مليارات دولار حصيلة الطائرات والقاذفات الروسية التي تم تدميرها
• تنفيذ هكذا عملية يتجاوز قدرة المخابرات الأوكرانية تخطيطاً وتنفيذاً ويؤكد وجود دعم خارجي خفي
• المخطط الخارجي “أمريكي أو بريطاني أو كلاهما” أراد من العملية أهدافاً تتجاوز المعارك في نقاط الاشتباك
• العملية الأوكرانية تُعدّ بمثابة جرس إنذار لعصر حرب الطائرات المسيّرة
التمهيد
يمثل الهجوم الأوكراني الكاسح على أقاصي الأراضي الروسية اختراقاً أمنياً عالي المستوى سواء من حجم العملية أو نتائجها أو كواليسها أو الانعكاسات المحتملة لها، في حرب ما زالت أنظار العالم تتجه لإنهائها أو الحد من آثارها كون نتائجها قد تعيد رسم خريطة المشهد العالمي ككل.
المحور
الاختراق الأمني الأوكراني
استهدفت هجمات أوكرانية مطار بيلايا في منطقة إيركوتسك في شرق سيبيريا على بعد نحو 4300 كيلومتر من أوكرانيا.. في ضربة تمت بطائرات مسيّرة بدون طيار.
رغم أن الهجمات واستخدام المسيرات أصبح أمراً اعتيادياً في الحرب بين الروس والأوكرانيين، لكن هذا الهجوم هو الأول على هذه المسافة البعيدة عن الجبهة، وتسبب بخسائر فادحة للجانب الروسي قاربت الـ 7 مليار دولار حصيلة الطائرات والقاذفات الروسية التي تم تدميرها في قواعدها في أقاصي سيبيريا باستخدام مسيرات أوكرانية رخيصة الثمن (تكلفة المسيّرة الأوكرانية الواحدة قرابة 1000 دولار).
الروس أكدوا وقوع الهجمات، وأشار حاكم منطقة إيكوستك إيغور كوبزيف يوم الأحد الماضي إلى هجوم بمسيّرات على قرية سريدني، المجاورة لقاعدة بيلايا في سيبيريا، موضحاً أن هذا أول هجوم مماثل في سيبيريا، داعياً السكان إلى عدم الاستسلام للذعر.
بدورها، مصادر الأمن الأوكراني أكدت أن الهجمات جاءت ضمن عملية “خاصة واسعة النطاق” جرى تخطيطها منذ فترة طويلة قاربت 18 شهراً، واستهدفت أربع مطارات عسكرية في أنحاء مختلفة في روسيا، من ضمنها مطار أولينيا الواقع في المنطقة القطبية الشمالية التابعة لروسيا، على بعد نحو 1900 كم من أوكرانيا. (الراجح وفق التحليل الأمني أن التخطيط للعملية كان قريباً وليس في هذه الفترة الطويلة، لكن الإعلان عن هكذا مدة يراد منه رفع الحرج عن ترامب واتهام بايدن بذلك من جهة، والتباهي المفترض بقدرة المخابرات الأوكرانية على هكذا أعمال معقدة، تنفيها مقاييس الواقع العسكري والأمني الأوكراني).
إذن يمثل هذا الهجوم اختراقاً أمنياً عالي المستوى من قبل أوكرانيا في عمق الأراضي الروسية نتيجة:
– فداحة الأضرار الناتجة عنه. (41 قاذفة ضُربت)
– التوقيت الذي جاء قبل يوم من انعقاد جولة محادثات مباشرة في إسطنبول التركية.
– استخدام المسيّرات التي ضربت العمق الروسي من داخل الأراضي الروسية بالقرب من القواعد المستهدفة.
– استعادة عملاء أوكرانيا الذين نفذوا الهجوم بعد الانتهاء منه وخروجهم من روسيا بأمان.
ما جرى يفرض تحديات خاصة أمام الروس تتمثل بالسؤال عن كيفية قدرة الأوكراني على اختراق روسيا التي تمتلك أقوى وأحدث أسلحة الدفاع الجوي باستخدام مسيّرات بسيطة ذات تكلفة منخفضة من جهة، وعجز جهاز المخابرات الروسي ذو الكفاءة العالية عالمياً، عن توقع ومعرفة هكذا هجوم سواء بالتخطيط له أو اختراق الأراضي الروسية وزرع عملاء لتنفيذ المهمة ونقل الطائرات لآلاف الكيلومترات في العمق الروسي دون أي دراية من الاستخبارات الروسية.
وبحسب تصريحات الرئيس الأوكراني فقد تم استخدام 117 طائرة مسيرة في العملية، وكان عدد مماثل من مشغلي الطائرات بدون طيار يعملون. حيث دمرت هذه العملية الخاصة أكثر من 40 طائرة استراتيجية للروس، وجرى استهداف 34 بالمائة من حاملات الصواريخ الاستراتيجية في مطاراتها. ليؤكد زيلينسكي أن عملاؤه الذين اخترقوا العمق الروسي كانوا يعملون في مناطق روسية مختلفة في ثلاث مناطق زمنية. وتم إخراجهم من الأراضي الروسية فور انتهاء العملية، وهم آمنون.
مكان وتوقيت الهجوم
لم يكن الاختيار الأوكراني لقاعدة بيلايا في شرق روسيا – سيبيريا، لم اختياراً اعتباطياً لا في المكان ولا في التوقيت. فالقاعدة تحتوي أخطر القاذفات الروسية الاستراتيجية التي وضعت هناك، والتي تستخدمها موسكو في ضرب كييف بالصواريخ بعيدة المدى. والتوقيت جاء قبل جولة جديدة من مفاوضات إسطنبول التي جرت يوم الإثنين الماضي، والتي شهدت جموداً متبادلاً بإصرار كل طرف على رؤيته وشروطه.

البعد الخارجي والدور الأمريكي المحتمل
تجدر الإشارة إلى أن تنفيذ هكذا عملية الراجح أنها تتجاوز قدرة جهاز المخابرات الأوكرانية تخطيطاً وتنفيذاً ويؤكد وجود تخطيط ودعم خارجي خفي وخاص لهكذا خطوة تحمل خطورة كبيرة تتجاوز الأبعاد العسكرية وترتبط بالقرارات السياسية العليا.
وهذا ما فجر تساؤلات هل أمريكا تعرف أم لا تعرف بالضربة وهذا يفسر الجدل الدبلوماسي والإعلامي حول معرفة الناتو بالضربة، وهذا يبعث تساؤل حول مرامي الرئيس ترامب من هكذا ضربة بهذا الوقت بعد أن أظهر رغبته بالسلام مع روسيا والتواصل المباشر مع بوتين، وأظهر عداءً مباشراً للرئيس زيلينسكي وضغطاً مباشراً عليه لإنهاء الحرب، حيث كان ترامب يهدف إلى الاستثمار في المعادن النادرة في الأراضي الأوكرانية (وكذلك الروسية).

لفهم موافقة ترامب الضمنية المتوقعة لهذه الضربة وتغير موقفه من أوكرانيا، يجب العودة إلى موقف بوتين نفسه وشروطه التي أصرّ عليها – بعد موافقة أوكرانيا على طلبات ترامب بإنهاء الحرب- حيث أراد بوتين الاعتراف الرسمي بضم الأراضي التي استولى عليها جيشه إلى الأراضي الروسية من جهة، وفك تجميد الأموال الروسية في أوروبا وأمريكا دون أن يؤخذ منها شيء يخص إعادة إعمار روسيا، وعدم تسليح أوكرانيا وضمها للناتو، وتوقيع كييف على وقف إطلاق النار بدون شروط.. ما أزعج ترامب فيما يبدو فغيّر من مواقفه وأظهرت تصريحاته الأخيرة هجوماً مباشراً على بوتين نفسه والتي وصفه فيها بالجنون، وبطبيعة الحال يرجح ذلك موافقته على ضربات مؤلمة للعمق الروسي كرسالة واضحة مباشرة يفهمها بوتين نفسه، ليضمن موافقة بوتين على وقف الحرب وفق رؤية ترامب نفسه بعد إثبات القدرة على وصول العمق الروسي في سيبيريا وضرب القاذفات الاستراتيجية النووية (جزء من الثالوث النووي الذي تفتخر به روسيا – الثالوث النووي يعني القدرة على ضرب السلاح النووي براً وبحراً وجواً).
أبعاد وانعكاسات خاصة
لم تتأثر سيرورة المعارك بين الجانبين بما جرى، فالعملية وفق التقاطعات الظاهرة لا يراد منها تحرير الأراضي الأوكرانية في الشرق والجنوب، فلم يتم القيام بأي عملية أو هجوم ضمن نقاط الاشتباك أو الأراضي الأوكرانية لتحريرها، فالمخطط الخارجي (أمريكي أو بريطاني أو كلاهما) للعملية أراد منها أهداف خاصة تتجاوز المعارك الدائرة في نقاط الاشتباك.
الإنجليز والذين لهم يد طولى بتنسيق هكذا عمليات ولا يمكن أن تتم بدون تنسيق مباشر من قبل البريطانيين، ومن ورائهم الأوروبيون، حيث يهدفون لتصعيد الحرب درجة فوق أخرى ثم مراقبة المشهد وانتظار الرد الروسي، فإن لم يكن حاسماً يجر أوروبا للحرب المباشرة، يتم تبني العملية بعد فترة.
الأمريكي بدوره يريد بعث رسالة خاصة لبوتين نفسه حول التعنت الروسي الأخير وتصعيده مستوى الشروط، وهذا ما انعكس -فيما يبدو – بالرد الروسي الدبلوماسي على تصريحات ترامب الأخيرة التي هاجمت بوتين نفسه.
لكن الرسالة الروسية والرد المباشر جاء بعد العملية حيث ضرب الروس العاصمة كييف بسبعة صواريخ باليستية بعيدة المدى، ونفذ أكبر هجوم جوي بالطيران المسيّر على 18 قاعدة عسكرية للقوات الأوكرانية، واستخدم 472 طائرة وصاروخ.
رسالة روسية واضحة بأن ضرب القاعدة في عمق سيبيريا لم يؤثر على قدرة روسيا على شن ضربات كثيرة وكبيرة ونوعيّة، ولم يؤثر على سيرورة المعارك أو المفاوضات أو مشهد العمليات الكلّي، بل زاد من وتيرة الهجمات الروسية على العمق الأوكراني.
أي أن المشغل الأمريكي الذي كان يدرك هكذا نتيجة، ليس ضمن مخططه الشعب الأوكراني أو تحرير الأراضي الأوكرانية بل يريد تحقيق مصالحه في أوكرانيا والبدء في استخراج المعادن النادرة منها.
الضربة بخطتها الأساسية أريد منها التسبب بألم للروس وتحقيق أهداف خاصة وليس القضاء على القدرات الروسية، وإلا لتم تنفيذ عملية خاصة في مناطق الاشتباك تسمح للقوات الأوكرانية باحتلال أراضي روسية جديدة – كما جرى سابقاً باحتلال كورسك- واستخدامها كورقة ضغط في المفاوضات، أو تمكين الاوكرانيين أنفسهم من طرد من الأراضي التي احتلوها.

الخاتمة
ختاماً، نشير أن الهجوم أوكرانياً يراد منه تخويف روسيا وإجبارها على تخفيف شروطها لإيقاف الحرب، لكن رسالتها واضحة بعد الرد الأكبر عسكرياً من جهة، والبعث برسائل خاصة للأمريكان من جهة أخرى تتمثل بالتلميح بقبول عقد قمة يحضرها ترامب مع بوتين وزيلينسكي في إسطنبول بعد مخرجات جولة مفاوضات الإثنين الماضي في تركيا، لكن الخطورة أن الروس قد يصعدّون المشهد كلياً ويوسعون مدى الحرب نفسها (هناك تشابه مع حادثة بيرل هاربر وهجوم اليابان على أمريكا في الحرب العالمية الثانية) لكن الرسالة الخارجية (الأمريكية) بقدرتهم على تغيير مجريات المشهد، لا شك أنها وصلت للروس.
سيناريوهات الرد الروسي تشمل خيارين محتملين، رغم الرد الروسي المباشر بأعنف ضربة وجهت لأوكرانيا:
– السيناريو الأول يجعل من الرد الروسي الذي تم، هو مقدمة فقط للرد الروسي، وما يجري التحضير له روسياً، أعنف وأشد.
– السيناريو الثاني، اكتفاء الروس بقواعد الاشتباك العادية والتي تجري حالياً والاكتفاء بالرد الأخير الذي أوصل رسالة مباشرة.
يرجح أن السيناريو الثاني يطرح نفسه بقوة أمام الروس نظراً إلى المكاسب الكبرى التي حققتها موسكو بتموضعها شرق وجنوب أوكرانيا (تقدر قيمة المعادن النادرة في تلك المناطق بما يقارب 7 ترليون دولار وهي تفوق خسارة 7 مليارات دولار ثمن القاذفات) وعدم جرّ الأمريكان لتصعيد أكبر قد يجعلهم يخسرون هذه المكاسب، والاستمرار بالمفاوضات وهذا ما يجري في تركيا حالياً، وتعزز المؤشرات هذا.
في العمق وكخلاصة مغايرة لهدف الجانبين، يمكن القول بنظرة مستقبلية إن العملية الأوكرانية ضد روسيا تُعدّ بمثابة جرس إنذار لعصر حرب الطائرات المسيّرة.

This post has already been read 358 times!

