منذ الإعلان عن بداية عملية “ردع العدوان” التي أطلقتها إدارة العمليات العسكرية صبيحة السابع والعشرين من نوفمبر الماضي تضاربت التحليلات وتداخلت القراءات السياسية والعسكرية للحدث مع الآراء الشخصية والأحكام القيمية، وضاعت بوصلة المتابعين الجدد للأحداث في سوريا بين صور ذهنية عتيقة وتخيّلات ذات دوافع إيديولوجية وطائفية وأوهام مؤامراتية تردّ كلّ ما يجري إلى المخطط الصهيوني والإرادة الأمريكية وغيرها من التخرّسات الغارقة في السطحية.
لقد اتّضح للمتابعين الجادّين للحدث أنّ الجماهير العربية في مجملها بعيدة كلّ البعد عن فهم الواقع السّوري، تماماً كما هي عاجزة عن فهم الواقع الليبي أو اليمني، بل أنّ الفجوة بين الرأي العام في دول المغرب العربي ودول المشرق صارت جليّة للعيان فيما يخصّ قراءة الأحداث وتفسيرها، وتأكّد لأصحاب الأقلام الرّصينة أنّ الجماهير التي نامت سنوات طويلة وغرقت في مجريات حياتها ركضاً خلف لقمة العيش يصعب عليها استيعاب خلفيات الأحداث ودوافعها، وتعجز عن فهم التفاعلات بين الداخلي والخارجي، بين المحلّي والإقليمي والدولي، بل أنّها غير مستعدّة حتى للإنصات لمن يحاول الأخذ بيدها، وفي الوقت نفسه لا تتورّع في زمن الكلام عن الكلام وكيل التّهم وتجعل من الثرثرة والكسل الذهني بديلا عن البحث ومحاولات الفهم الدقيق للأحداث.
وهذا بالضبط هدف الورقة للإجابة عن سؤالين رئيسيين: من هؤلاء الذين فجّروا معركة ردع العدوان؟ وما انتماءاتهم؟ مع ما يجرّه السؤالان من أسئلة فرعية تخصّ خلفيات النشأة والإيديويوجيات والترابط بين الفصائل نفسها وبينها وبين الفواعل الإقليمية والدولية على أن تقتصر الورقة على الفصائل المشاركة في عملية ردع العدوان تفادياً للغرق في تفاصيل ترتبط بكيانات سياسية وعسكرية أخرى غير ذات علاقة بحدث الساعة.
أولاً: المعارضة السورية من التشظّي إلى الوحدة
لم يكن الوصول إلى تشكيل إدارة العمليات العسكرية وتوحيد الجهد السياسي والعسكري سهلًا لدى فصائل المعارضة السورية على الرغم من أنّ حلم التوحيد راود جماهير الثورة وقياداتها منذ تحوّل الحراك الاحتجاجي إلى انتفاضة مسلّحة مباشرة بعد تيقّن الثوار بأن نظام الأسد ماض في مسار عسكرة الثورة وقمعها بكلّ الأدوات الممكنة، ثم تحويلها إلى صراع طائفي يأكل الأخضر واليابس.
عرفت سوريا منذ 2011 عشرات، بل مئات التنظيمات المسلّحة التي تنشط في صفوف المعارضة ومع النظام كذلك، منها الإسلامي السلفي، ومنها ما يعرّف نفسه بأنّه إصلاحي تجديدي، وطيف علماني مثّله فريق من قيادات الجيش الحرّ المشكل في معظمه من الضباط والجنود المنشقين عن الجيش النظامي، وفريق آخر من الكيانات العسكرية ذات المنشأ العرقي مثّله تنظيم قوات سوريا الديمقراطية “قسد” وحزب الاتحاد الديمقراطي الكرديان، ليأتي تنظيم الدولة في العراق والشام “داعش” كي يضع الجميع أمام أنموذج فوق دولاتي زعزع المنطقة بشكل عام وسوريا بشكل خاصّ ثم اختفى في ظروف غريبة! وقد ينبعث من جديد في أي لحظة، هذا دون نسيان استعانة الأسد بكلّ التنظيمات الشيعية الموجودة في العالم؛ من العراق إلى لبنان إلى إيران إلى أفغانستان وباكستان.
من جهة أخرى، استعانت بعض التنظيمات المعارضة بوافدين ومهاجرين من دول أخرى في صراع دولي متشابك، تجد فيه الغرب والشرق؛ أمريكا وفرنسا وبريطانيا وروسيا وإيران وتركيا والكيان الصهيوني، حرب مخابراتية وعسكرية وسياسية وطائفية متعددة الأبعاد يحتاج كلّ تفصيل فيها إلى دراسة خاصة به.
وكي نخصّص أكثر، سنتناول تتبّعاً لأهم محاولات الوحدة بين فصائل المعارضة المسلحة منذ البداية وصولًا إلى الفواعل التي أطلقت عملية “ردع العدوان”.
• الجبهة الإسلامية السورية
كانت أول أكبر عمليّة اندماج بين الفصائل المسلحة منذ انطلاق الثورة السورية، حيث أعلنت في الـ22 من نوفمبر عام 2013، سبعة فصائل عسكريّة ذات توجهات إسلاميّة عن توحّدها، وهي، “حركة أحرار الشام”، والتي تعتبر أحد أكبر الفصائل السورية المسلحة، تأسّست عام 2011 بزعامة حسان عبود حتى مقتله في 09 سبتمبر 2014 رفقة شقيقيه وعدد من قادة الجماعة بلغ أكثر من 45 قائدًا بارزًا في ضربة خطيرة أفقدتها قوّتها المتعاظمة في ذلك الوقت. يضاف إليها ألويّة صقور الشام “بقيادة أحمد الشيخ”، جيش الإسلام “بقيادة زهران علوش”، لواء التوحيد “تزعمه أبو عمر حريتان”، لواء الحق “تزعمه أبو راتب الحمصي”، كتائب أنصار الشام “بقيادة أبي عمر” والجبهة الإسلاميّة الكردية “ترأسها صلاح الدين الكردي”. واختارت تلك التنظيمات اسم “الجبهة الإسلاميّة”.
وجاء في البيان التأسيسي الذي تلاه قائد ألوية صقور الشام أحمد الشيخ “الملقب أبو عيسى”، أنّ الجبهة “هي تكوين سياسي عسكري اجتماعي مستقل يهدف إلى إسقاط النظام وبناء دولة إسلامية راشدة”، وانضمت إليها فصائل أخرى صغيرة لاحقاً.
وقبل الجبهة الإسلامية كانت هناك محاولة سابقة للاندماج في سبتمبر 2012، حيث شكّل ما يقرب من 20 فصيلاً مسلّحاً، كياناً موحّداً تحت اسم “جبهة تحرير سوريا الإسلامية”، أبرزها: صقور الشام، لواء التوحيد، لواء الإسلام، لواء الفتح وكتائب الفاروق، وترأس الجبهة قائد صقور الشام أحمد الشيخ. وانضمت قيادتها إلى هيئة الأركان المشتركة في الجيش الحر.
يشار إلى أن بعض تلك الفصائل هي كذلك مسميات جديدة ناتجة عن اندماج فصائل أخرى أصغر بتسميات مختلفة يصعب إحصاؤها كلها، فمن الناحية الميدانية كان في سوريا في السنوات الأولى للثورة في كل محافظة عدّة فصائل، وكل منطقة وبلدة تجد فيها أحياناً أكثر من فصيل مسلّح، وكلّها ذات تسليح خفيف بأسلحة فردية لا تصمد أمام ترسانة النظام.
• جيش الفتح
يعرف أيضاً بـ”جبهة فتح الشام”. تأسس في الـ24 من مارس عام 2015 تتويجاً لجهود مضنية هدفت إلى توحد سبع مجموعات كبرى من الفصائل المسلحة الرامية للإطاحة بنظام الرئيس بشار الأسد، وضم التنظيم الجديد في ذلك الوقت المجموعات التالية: أحرار الشام، جبهة النصرة، جند الأقصى، جيش السنة، فيلق الشام، لواء الحق وأجناد الشام.
وتعتبر “جبهة النصرة” بقيادة “أبو محمد الجولاني” التي غيّرت اسمها إلى “جبهة فتح الشام” أهمّ وأقوى التنظيمات المُشكلة لجيش الفتح، وهي تنظيم سلفي جهادي تأسّس أواخر سنة 2011 في مدينة حمص، يسعى حسب بيانه التأسيسي إلى “إعادة سلطانِ اللهِ إلى أرضِه” والثأر لضحايا النظام الأسدي.
أعلنت “جبهة النصرة” انضمامها إلى تنظيم القاعدة عام 2014 وبايعت زعيمها أيمن الظواهري، ثمّ ما لبثت أن أعلنت انفصالها عن “القاعدة” في 2016، كما قاتلت “داعش” في عام 2014 في مدينة البوكمال على حدود العراق، وتقاتلت منذ تأسيسها مع ما يزيد عن 30 تنظيماً مسلّحاً، وتوحّدت مع فصائل أخرى ضمن “جيش الفتح” ثم كيانات أخرى.
• هيئة تحرير الشام
تأسست عام 2017 كردّ فعل على بداية مفاوضات أستانا، وكانت تستهدف كما هو معلوم إسقاط نظام الأسد وتتفادى الحلول الجزئية معه. وتضم الهيئة عددًا من التنظيمات المسلحة الكبرى في منطقة الشمال السوري وتتّخذ من مدينة إدلب مركزًا لها، ومن أبرز مشكّليها: جيش الفتح، لواء الحق، جبهة أنصار الدين، جيش السنة وعدد من الفصائل والتنظيمات الصغيرة التي انضمت إليها لاحقًا رفقة عدد من الدعاة والشخصيات الاعتبارية في إدلب وحلب وريفها.
تأسست الهيئة لتكون –حسب تصريحات مسؤوليها- كيانًا يمثل مرحلة جديدة في الثورة السورية، يتجاوز الاحتراب الداخلي وينقذ الثورة من المؤامرات الدولية والإقليمية التي تعصف بها.
• الجبهة الوطنية للتحرير
تأسست مطلع أغسطس 2018 نتيجة توحّد مجموعة من الفصائل الكبرى التابعة للجيش الحر وفصائل إسلامية أخرى مثل: جبهة تحرير سوريا، ألوية صقور الشام، كتائب نور الدين زنكي، تجمع دمشق، جيش الأحرار وأحد فروع أحرار الشام. وكلا الفصيلين السابقين كانا متحالفين مع هيئة تحرير الشام.
أنشئت الجبهة بهدف تكوين “نواة لجيش الثورة القادم” حسب تصريحات الناطق الرسمي باسمها في ذلك الوقت، لكنّ الانشقاقات لاحقتها أيضًا وفقدت تماسكها بعد انفصال ألوية صقور الشام عنها.
بالمحصّلة، كان الانشقاق والتشظي والانضمام إلى كيانات جديدة والانشقاق عنها من جديد سمة بارزة لدى معظم الفصائل السورية المسلحة في الفترة الممتدة بين 2011 و2023، ولم يكد يسلم منه تنظيم، ولعلّ ذلك هو السبب الأساس لتوحيد الجهد لاحقا ضمن إدارة العمليات العسكرية. فما هي هوية إدارة العمليات العسكرية الموحدة قائدة عملية ردع العدوان؟
• إدارة العمليات العسكرية
هي الاسم الحديث لكيان عسكري وسياسي كان يسمى “غرفة عمليات الفتح المبين”، وهي هيئة تشكلت عام 2019 بهدف إدارة العمليات العسكرية في الشمال السوري وتنسيقها.
في منتصف عام 2020، أصدرت الهيئة بيانًا عن “توحيد الجهد العسكري”، ومنعت تشكيل أي فصيل مسلّح أو غرفة عمليات في المناطق الواقعة تحت سيطرتها، وحصرت الأعمال العسكرية في “غرفة عمليات الفتح المبين”.
وأعلنت الغرفة في مؤتمر صحفي عقدته عام 2023 عن ترتيب بناء جديد للقوة العسكرية للفصائل العاملة في الشمال السوري، وقالت إن هذه الخطوة ساهمت في “تحقيق توازن القوى في المنطقة”، لكن ما يجب التركيز عليه في هذا الخصوص هو أنّ هذا الكيان الجديد، أي “غرفة الفتح المبين” هي كذلك نتيجة لمحاولات سابقة للتوحّد بين عشرات الفصائل التي انشق بعضها عن بعضها واندمج مع بعض آخر في حركية معقّدة يصعب تعقّب كل تفاصيلها.
وتضمّ إدارة العمليات العسكرية؛ الوريث الشرعي لغرفة عمليات الفتح المبين، كلاّ من: هيئة تحرير الشام، الجبهة الوطنية للتحرير، حركة أحرار الشام، جيش العزة. والأخير تنظيم بدأ تحت مسمى لواء شهداء اللطامنة بداية العام 2012، ليتحول إلى تجمع العزة في 2013، ومن ثم جيش العزة في نهاية 2015 بقيادة الرائد جميل الصالح، وانضم إلى التجمع العديد من الألوية والكتائب الثورية من مختلف الاختصاصات لتقرر عندها قيادة التجمع تشكيل جيش عسكري منظم واستقطاب أكبر عدد من الضباط المنشقين عن نظام الأسد تحت المسمى الحالي جيش العزة.
وتجدر الإشارة إلى أنّ إدارة العمليات العسكرية ليست الكيان الوحيد العامل في شمال سوريا، حيث كان يسيطر الجيش الوطني السوري على جزء من المنطقة، في حين تسيطر التنظيمات الكردية المدعومة أمريكياً على مناطق أخرى.
وإن كان هذا هو مسار تشكيل إدارة العمليات العسكرية الذي يمكن اعتباره أكثر تنظيما ونضجا هيكلياً في المعارضة السورية، فما ولاءات أطرافه وكيف تدير علاقاتها مع القوى الإقليمية والدولية؟
ثانياً: ردع العدوان الفواعل والعلاقات
المعارضة السورية ليست استثناءً في تعقيد تفكيكها وتشريحها من ناحية الاتهام بالعمالة والسعي الذاتي للتحرر ناحية تداخل عوامل عدة زاد منها أنّ وجود سوريا في موقع استراتيجي مؤثّر جعلها مركزاً للصراعات بين مختلف القوى الإقليمية والدولية، فما يحدث في سوريا يؤثّر على دول الجوار مباشرة من الناحية الأمنية بدرجة أولى، وقد ينسحب تأثيره السياسي على نطاق أوسع خاصة أنّ عدوى التغيير تنتقل سريعاً بين دول “الرّبيع العربي”، وسوريا بالنسبة للنظم المعادية للثورات أكثر النماذج إثارة للخوف والتخويف؛ خوف تلك الأنظمة من نجاح المعارضة المسلّحة ومن ثمّة تصبح مثالاً يحتذى في دول كمصر والأردن وبعض دول الخليج، وتخويف للشعوب من المصير السّوري في حال ما إذا استمر الوضع على ما هو عليه قبل سقوط نظام الأسد.
لهذه الأسباب نلاحظ أنّ موضوع الاحتراب الداخلي يأخذ حيّزاً واسعاً عند الحديث عن الواقع السّوري، والاتّهامات بالعمالة والتوظيف والتبعية للأطراف الأجنبية لصيقة بالخطاب الرسمي وجزء من الجماهير العربية.
لفحص علاقات الفصائل السورية التي تقود معركة ردع العدوان مع القوى الخارجية يجب أوّلاً أن نضع في الميزان الأسئلة التالية: هل كل علاقة بين طرفين هي بالضرورة علاقة تابع ومتبوع؟ هل كلّ علاقة بين فصيل معارض وطرف أجنبي يمكن اعتبارها توظيفاً وعمالة؟ هل يمكن أن يتحوّل التعاون بين الطرفين إلى توظيف؟ وهل يمكن أن يتمرّد الطرف الذي تمّ توظيفه على موظّفه ويستقلّ عنه؟ وما أثر تقاطع المصالح بين مختلف الأطراف على العلاقات بينها؟
ولعلّ كل تلك الأسئلة تحتاج أوّلاً إلى إجابة عن السؤال الأهم: في زمن العولمة والاعتماد المتبادل وحركة السياسة الدولية باتجاه تشكيل عالم متعدّد الأقطاب، هل يمكن لأيّ تنظيم معارض في دولة بأهمّية سوريا أن يشتغل بمعزل عن كلّ القوى ويمتنع عن إقامة علاقات معها؟
• مكونات إدارة العمليات العسكرية: علاقات متشابكة
تتكوّن إدارة العمليات العسكرية من أربع فصائل أساسية ذات انتماءات إيديولوجية متباينة وإن كانت في معظمها إسلامية التوجّه عدا “جيش العزّة” الذي يمكن إدراجه ضمن التيّار الوطني المحافظ باعتبار أغلب قيادته ضباطًا وجنودًا منشقّين عن جيش النّظام.
في الوقت نفسه، نجد أنّ مسار تآلف وتخالف “هيئة تحرير الشّام” و”أحرار الشام” مثير للانتباه، فالعلاقة بين التنظيمين تميّزت طيلة السنوات التسع الماضية بالتقلّب، حيث تحالفا ضمن “جيش الفتح” عام 2015 ثم اختلفا فتقاتلا عدة مرات، وظلّت العلاقات بينهما بين مدّ وجزر إلى أن استقرّت جزئيا ضمن غرفة عمليات “الفتح المبين” بداية من 2019، ثمّ تتذبذب من جديد مع الانقلابات والانقلابات المضادة داخل حركة “أحرار الشام” لتأخذ طريقها إلى الاستقرار نهائيا وتتوّج بالاتّفاق على القيادة المشتركة لإدارة العمليات العسكرية في خطوة تبيّن إلى حدّ كبير نضج القيادة الحالية ووصولها إلى قناعة مفادها ضرورة التّعاون والتوحّد في مواجهة الأسد وميليشياته.
وكلا التنظيمين متّهمان حسب دعاية النظام السابق وأنصاره بتبعيتهما لتركيا بشكل خاص، لذلك نتتبّع مسار وعلاقات التنظيمات الأربع التي تقود عملية ردع العدوان:
• هيئة تحرير الشام وسؤال الاستقلالية والتّبعية
في سوريا، يساوي الحديث عن “هيئة تحرير الشام” الحديث عن زعيمها ومؤسسها الذي ضمن لها القوّة والاستمرارية وحافظ على كيان التنظيم على الرغم من الصراعات التي خاضها على مدار 13 سنة من النشاط.
ويعتبر أحمد حسين الشرع، أو “أبو محمّد الجولاني” أبرز القادة الذين يمثّلون المعارضة السورية المسلحة إن لم يكن أبرزهم على الإطلاق، والمؤكّد أنّه أكثرهم قوة ونفوذًا في الشمال السّوري بالنّظر من جهة إلى قدرته على تجميع الفصائل وتوحيدها رغم قتاله السابق لبعضها، ومن جهة ثانية بسبب مزجه بين العملين العسكري والسياسي معاً في إدارة شؤون محافظة إدلب التي يعتبر عملياً زعيمها الأوحد، فالنموذج الذي أسّسه يبدو مختلفاً عن باقي التنظيمات بسبب قربه من نموذج الدولة أكثر منه إلى نموذج التنظيم المسلّح المحض، فمنذ تأسيس “هيئة تحرير الشام” تمّ تشكيل حكومة تحت مسمى “حكومة الإنقاذ” تقوم بتسيير الشأن العام وتنظم وتدير المؤسسات المدنية الموجودة في المنطقة، ضمت الحكومة عددًا من التكنوقراط الذين يتولّون تسيير الحياة المدنية، ويتقاسمون 11 حقيبة وزارية في خطوة تبدو بمثابة مرحلة تدريبية تسبق تعميم النموذج على كلّ المناطق التي تصلها يد الهيئة.
ويتّهم معارضو “الجولاني” زعيم “هيئة تحرير الشام” بالتّبعية المطلقة لتركيا، وهي مزاعم لا يعززها الواقع بالنظر إلى التوتّر الذي طالما طبع العلاقة بين الهيئة والتنظيمات الموالية لتركيا مثل الجيش الوطني السوري الشريك الأوّل لتركيا في الشمال السوري، وهو فصيل لم ينخرط في عملية ردع العدوان مع بدايتها، وانتظر مرور ثلاثة أيّام لإطلاق عملية باسم فجر الحرّية تستهدف تحرير تل رفعت وبعض المناطق في ريف حلب من سيطرة الميليشيات الكردية.
ومن المعلوم أنّ تركيا تتعامل سياسيًا مع الحكومة السورية المؤقتة التي تتّخذ من تركيا مقرّا لها، وتعتمد عسكرياً على فيالق الجيش الوطني التابع لهذه الحكومة في عملياتها ضدّ ميليشيا “قسد” وحلفائها منذ عمليتي درع الفرات في 2016 وغصن الزيتون في 2018، ثم عملية نبع السلام في 2019، وصولا إلى عملية فجر الحرّية التي أطلقتها بعد عملية ردع العدوان بثلاثة أيّام ضد التنظيمات الكردية.
عملياً، يشكّل الجيش الوطني السوري ذراع تركيا في سوريا، فهي التي أسّسته سنة 2017 بإدماج عشرات الفصائل التي درّبتها القوات الخاصة التركية مع فصائل أخرى من مختلف التوجهات، وهي التي تتولّى تسليحه وتمويله وتدفع رواتب جنوده، وحتّى تسميات بعض تشكيلاته ذات نفَس تركي مثل فرقة السلطان مراد ولواء السلطان سليمان شاه ولواء السلطان محمد الفاتح، مع ملاحظة أنّ هذا الجيش عبارة عن سديم متنافر من التنظيمات المتنافسة على التقارب مع الجانب التركي، ولا يجمع بينها أيّ رابط عقَدي رغم المساعي التركية لتوحيدها ضمن كيان واحد.
وقد مثّلت “هيئة تحرير الشام” حجر العثرة أمام تركيا عند تأسيس الجيش الوطني حيث كانت التنظيم الوحيد الذي وقف في وجه المحاولات التركية، ومنع فصائل منطقة إدلب من الانضواء تحت لواء الكيان العسكري الجديد، فكانت الهيئة بذلك هي القوة الوحيدة المنافسة للذراع العسكرية التركية. كما أنّ العلاقة بين بعض تشكيلات الجيش الوطني وهيئة تحرير الشام علاقة عداء صريح وصل حدّ اقتتال الهيئة مع الفليق الثالث التابع للجيش الوطني في أكتوبر 2022، والغريب أنّ فرقتي الحمزة والسلطان سليمان شاه وقفتا إلى جانب الهيئة في تلك المرحلة ضدّ حلفائهم في الفيلق الثالث والفصائل الثلاث جزء من الجيش الوطني السوري. فأيّ جيش هذا الذي يتحالف جزء منه مع هيئة تحرير الشام ضد جزء منه؟!
من الجانب السياسي، لا تحبّذ تركيا التعامل مع هيئة تحرير الشام، بل أنّ مواقف الطرفين تصل حدّ التناقض في ملفّات حساسة، فالهيئة تمثّل محور الرافضين لمسار أستانا الذي انطلق سنة 2017 بين تركيا وروسيا وإيران، بل أن تأسيس الهيئة جاء ردّا على انخراط جزء من المعارضة المسلحة في المسار وهو ما اعتبرته هيئة تحرير الشام “مؤامرة على الثورة السورية وإذلالاً لتضحيات المجاهدين”.
ومع محاولات التقارب بين نظامي أردوغان والأسد، نشر أبو محمد الجولاني خطابا مصوّرا بعنوان “لن نصالح” مطلع سنة 2023 عبّر فيه عن رفضه لأيّ تقارب مع الأسد معتبرًا المساعي التركية انحرافًا خطيرًا يمسّ الثورة السورية، وهو موقف كرّرته الهيئة بعد تجدّد الحديث عن المصالحة بين الأسد وأردوغان الصيف الماضي فقامت بالهجوم على الجيش النظامي وقتلت 12 عنصرًا سبتمبر الماضي في عملية نوعية هدفت إلى تقويض مشروع التّقارب، بل أنّ عملية ردع العدوان نفسها كانت ضربة قاصمة لمحاولات التقارب بين أردوغان والأسد.
بالمحصّلة لا تنظر تركيا بعين الرّضا إلى “هيئة تحرير الشام” لكنّها تحافظ على علاقة حذرة معها بوصفها أمراً واقعاً جرّبت التخلّص منه عن طريق المواجهة غير المباشرة من خلال فصائل الجيش الوطني وعجزت عن ذلك بالنظر إلى قوة التنظيم وتماسك قيادته وتجذّره، وفي الوقت ذاته تتقاطع المصلحة التركية مع مصلحة الهيئة في موضوع توسيع المناطق المحرّرة ليتخفّف الأتراك من اللاجئين، لهذا تأخرت أنقرة في إعلان موقفها من عملية ردع العدوان ولم تعارضها.
ومن منظر ميزان المصالح تفضّل تركيا منطقة آمنة تديرها الهيئة يمكنها إعادة اللاجئين إليها على منطقة غير مستقرّة قد تسمح بنشاط مريح للكيانات الكردية وتمنع أنقرة من ترحيل اللاجئين تحت بند “العودة الطوعية”.
والأتراك براغماتيون بطبيعتهم لا تهمّهم هوية من يسيطر على المناطق المحاذية لحدودهم بقدر ما يهمّهم أن تكون هناك جهة قويّة تحقّق لهم المصالح الثلاث التي لا ينفكّون يعبّرون عنها: عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، تأمين الحدود وتنظيم المعابر والتصدّي للميليشيات الكردية بما يمنع تنسيقها مع نظيرتها الموجودة في تركيا ويضعف أداءها العسكري.
• البقية وعلاقاتهم
يشكل “جيش العزة” وحركة “أحرار الشام” ضلعان في المثلث الأكبر الذي تقوم عليه إدارة العمليات العسكرية بالإضافة إلى “هيئة تحرير الشام”، في حين تبقى الجبهة الوطنية للتحرير تشكيلاً غير مرئي كثيراً للإعلام على الرغم من دورها الفعّال في العمليات، فالجبهة التي تأسست من اندماج فصائل صغيرة تكاد تذوب في الكيان الجديد الذي يدير المعارك، وهي حالة متقدمة جداً من التناسق والتوحّد لدى فصائل المعارضة.
في المجمل، يعتبر الحديث عن العلاقات بين فصائل المعارضة السورية والقوى الإقليمية والدولية موضوعاً يخضع إلى البروباغندا أكثر مما يتقيّد بالواقعية والرصانة في التحليل، فإذا قسناه إلى عامل الزمن نرى أنّ الولاءات والعلاقات تتشابك وتتغيّر بسرعة ويمكن أن يصبح صديق اليوم عدوّاً في الغد، ولا ثبات في السياسة إلاّ لمن لا يمارسها، خاصة أنّنا بصدد الحديث عن مرحلة زمنية تتجاوز 13 سنة وهي فترة طويلة جدّاً تتغيّر فيها المعطيات بشكل شبه يومي. وإن كان “الأسبوع فترة طويلة في السياسة” كما يقول هارولد ويلسون فإنّ يوماً يعتبر طويلاً إذا كانت تلك السياسة تخصّ منطقة الشرق الأوسط التي لا يهدأ فيها نزاع في بقعة حتّى يندلع في أخرى.
This post has already been read 605 times!