• سرعة سقوط النظام تبعث على تساؤلات حول اتفاقات سرية
• عملية «ردع العدوان» صنعت واقعاً جديداً مجبرة إدارة ترامب على التعامل معه
في السابع والعشرين من نوفمبر أعلنت فصائل المعارضة السورية عملية عسكرية مباغتة ضد قوات بشار الأسد والميليشيات التابعة له سمّتها ردع العدوان، حيث جاءت بعد أيام قليلة من ضربة جوّية استهدفت مدنيين في ريف إدلب راح ضحيّتها أطفال لا ذنب لهم، كانت تلك الحادثة نقطة في بحر سلسلة من عدوان مستمر بشكل يكاد يكون يومياً.
التوقيت
لماذا الآن؟ الحرب خدعة، وما تكون كذلك إذا لم يختر صاحب القرار فيها توقيت البدء بدقّة، كذلك فعلت حركة حماس في غزة يوم السابع من أكتوبر قبل عام، وكذلك فعل مجاهدو الجزائر يوم الفاتح من نوفمبر قبل 70 سنة، والوقت في الحرب الحديثة يقاس بالثواني لا بالأيام ولا حتى بالساعات، فكيف اختارت المعارضة ساعة الصّفر لبدء عمليتها العسكرية؟
إقليمياً، انتظرت المعارضة إلى اللحظة التي أُعلن فيها عن اتفاق وقف إطلاق النار بين الكيان الصهيوني وحزب الله لتعلن عن بدء المعركة تفادياَ لتأويلات المؤمنين بمحور المقاومة كي لا يُتّهموا بكسر جبهة إسناد غزة في وقت حساس، فلو نفّذوها قبل يوم من الاتفاق لقيل أنّهم تعاونوا مع اليهود على هزيمة المقاومة في لبنان، ولو كانت قبل أشهر لقيل أنّهم يفكّون الخناق عن الكيان الصهيوني بقتال من يقاتله وقطع الإمداد عنه.
في هذه المرحلة، يبدو حزب الله جريحاً بالكاد يستطيع التقاط أنفاسه بعد فقدان الصفّ الأول من قيادته وإخراج المئات من جنوده عن الخدمة في حادثة البيجرز وما قبلها وبعدها، فالحزب الذي كان في طليعة أنصار النظام لم يعد قادراً على إنقاذ نفسه، وبذلك واتت الفرصة للانقضاض على ما تبقّى من ميليشياته في سوريا.. مع ما تحمله قطاعات كبيرة من السوريين من مشاعر ثأر ضد الحزب وأفعاله في سوريا.
التقهقر الإيراني
من جهة أخرى، جاءت العملية بالتّزامن مع انحسار الدّور الإيراني في المنطقة بعد الضربات التي تلقّاها فيلق القدس التابع للحرس الثوري في كلّ الأماكن، في دمشق وجنوب لبنان، فضلاً عن الضربة الصهيونية الأخيرة في العمق الإيراني التي بقيت دون ردّ بعد مرور أكثر من شهر على وصول الطيران المعادي إلى سماء طهران وقصفها.
لقد أدركت الفصائل السورية أنّ إيران اليوم غير إيران الأمس، والحرس الثوري بعد قاسم سليماني غير ذاك الذي كان يتجوّل في دمشق ينتقم من يزيد بتعبير خامنئي، لذلك كان التقهقر الإيراني مدخلاً مهمّاً في اتخاذ القرار بشنّ عملية ردع العدوان، يضاف إلى ضعف نظام بشار الأسد بعد لجوء طهران إلى سياسة خفض التوتّر مع الكيان الصهيوني ومحاولة الرئيس الجديد مدّ جسور التقارب مع الولايات المتحدة الأمريكية وانكفاء النظام الإيراني على نفسه تماهيا مع براغماتيته المعهودة تحت شعار الحفاظ على قواعد الاشتباك، فالأولوية بالنسبة لطهران حماية مشروعها النّووي بدرجة أولى، ثم الحفاظ على حلفائها في المنطقة، وفي نفس الوقت تفادي الصّدام مع البيت الأبيض بعد نجاح دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة، وهو ما جعل المسافة تتباعد بين النظام السوري والإيراني تحت ضغط الأحداث وتفاوت المصالح بين نظام يدري ما يريد ويتقن ترتيب أولوياته، ونظام لا همّ له غير تأمين البقاء بالاستناد على غيره.
منافع الأتراك
أما تركيا، فقد جاءت العملية لتخرجها من دائرة الترقّب وتضعها أمام ضرورة المواجهة الميدانية من جديد بعد فشل مساعي التقارب بين أردوغان والأسد لاسيما بعد رفض الأخير وساطة بوتين لعقد لقاء بين الغريمين الصيف الماضي، والعملية عكس ما يعتقد المؤمنون بتبعية فصائل المعارضة لتركيا لا يوجد ما يثبت علمها بها، بل كان قرار اتخاذها ذاتي، فالأتراك لا يهمّهم في الصراع سوى ثلاث مسائل؛ تأمين حدودهم وعودة اللاجئين وتضييق الخناق على الميليشيات الكردية، وما سوى ذلك تفاصيل يراها صانع القرار التركي بعين غير التي يراها بها أصحاب القضية، لكنّ هذا لا ينفي تقاطع مصلحة تركيا والمعارضة لأنّ مزيداً من الأراضي المحرّرة تعني من وجهة نظر أنقرة المزيد من اللاجئين العائدين إلى بلادهم، وتحرير حلب يعني تفريغ غازي عنتاب ومدن الجنوب التركي من السوريين، وضرب قوات سوريا الديمقراطية في تل رفعت لا يختلف عن ضرب حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل، ذاك هو المنطق الأمني والسياسي في عقل صانع القرار التركي، وما سوى ذلك أوهام (إنّه تقاطع المصالح).
توهان الرّوس
على الصّعيد الدولي، تتحرّك المعارضة السورية في واقع متغيّر يطبعه توهان الرّوس في حرب أوكرانيا وعجزهم عن حسم المعركة هناك منذ ما يقارب الثلاث سنوات، ولعلّها أول مرة تكون فيها موسكو بهذا الضعف منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي، فالروس الغارقون في وحل أوكرانيا لم يعد لحضورهم العسكري نفس القوة السابقة، ولم يبق لهم من الذخيرة والطيران الحربي ما يكفي لحماية الأسد على الوجه المعتاد، وإن كانت طرطوس مهمة فإن كورسك أهمّ في أعين بوتين، وذاك ما فهمته إدارة العمليات العسكرية في إدلب، أي تلك القيادة التي استلهمت من غرفة العمليات المشتركة في غزة الاسم واستراتيجيات العمل، مثلما استوحت منها طرائق القتال والإعداد. هل يعني ذلك أن روسيا لن تتدخل؟ كلا، ستفعل لكن ليس كما كان في السابق، إنّه زمن التراجع التكتيكي والحفاظ على ما أمكن من مكتسبات، ستنتقم من المدنيين ثمّ لن يكون أسوأ ممّا كان. (لذلك شهدنا في أول أيام المعارك قبل سقوط الأسد قصفًا مكثفا في إدلب على المدنيين).
واقع جديد
وفي الوقت الذي تنتظر فيه أمريكا تنصيب الرئيس ترامب وصياغة سياسة تتماشى مع توجّهاته تجاه سوريا، أتت العملية لصناعة واقع جديد لا يمكن للإدارة الذاهبة منعه لانشغالها بحرب أوكرانيا ودعم الكيان الصهيوني في حربه على غزة، وفي المقابل، ستكون الإدارة الجديدة مجبرة على التعامل معه في المستقبل.
بالإضافة إلى كل ما سبق، كان يتوقع أنّ العملية العسكرية تجري في منطقة خفض التصعيد التي اتّفقت عليها روسيا وتركيا وإيران سنة 2019، ما سبب تشويشًا عامًا وفق تقديرنا أن التدخّل الروسي سيكون محدوداً لتفادي الصدام مع تركيا مقابل بقاء الأخيرة على الحياد في الموضوع الأوكراني، وبذلك تتقاطع مصالح مختلف الأطراف الدولية والإقليمية بما يتيح المجال للمعارضة بتوسيع رقعة السيطرة وتحرير مزيد من المناطق في عملية بدأت محدودة ولا يتوقّع أن تتوسّع في الوقت الحالي.. لكن المفاجأة كانت بسرعة سقوط النظام وصول الثوار إلى العاصمة بعد أسبوع من تحرير حلب بشكل يبعث على تساؤلات حول اتفاقات سرية ورضا أمريكي ضمني يحتمل أنه تم نقاشه.. لكن المؤكد أن الجميع يراقب وينتظر مخاض الدولة الجديدة في سوريا.
This post has already been read 81 times!