كتابة منذر الحبيب
قبل أيام اجتمع قادة مجلس التعاون الخليجي في الكويت، حاملين معهم مشاريع عملية قيد التنفيذ، كمشروع الربط الكهربائي، وإنشاء الربط السككي الذي ابتدأ العمل به بإنشاء أول سكة حديد بين سلطة عمان ودولة الامارات، وسيتم ربط الدول الخليجية الست في عام 2023 ، بحسب ما ذكره الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي السيد جاسم البديوي.
تظهر مدرستان في تحليل أسباب إنشاء مجلس التعاون الخليجي في عام 1981، المدرسة الأولى هي المدرسة المثالية، أما المدرسة الثانية فهي تتبنى نظرية المؤامرة بالتحليل.
يتبنى الخطاب المثالي عناصر مثل: الثقافة المشتركة، ولغة العائلة، كوحدة تحليل لأسباب ظهور مجلس التعاون، في حين يتبنى أصحاب نظرية المؤامرة فكرة: أن مجلس التعاون أنشئ من قبل الأمريكان، ويقدم أصحاب نظرية المؤامرة معلومات غير دقيقة أو أحيانا مغلوطة، ويربطونها بإنشاء مجلس التعاون، كتحليل الدكتور عبدالله النفيسي الذي يقول: إن مجلس التعاون أنشئ كفكرة أمريكية ضد الثورة الإيرانية، وهو تحليل لا يستقيم؛ حيث إن الخطوات العملية لإنشاء مجلس التعاون بدأت قبل قيام الثورة الإيرانية، وكذلك كان بمباركة سوفيتية، خصمِ الولايات المتحدة في فترة الحرب الباردة، كما سأوضح في هذا المقال.
شكَّل غياب الجانب العلمي النظري في التحليل فراغًا تملؤه شريحة من الأكاديميين والسياسيين الأيديولوجيين، التي تساهم روايتاهم المتخيَّلَة بتشكيل وعي سياسي غير واقعي وبعيد عن سياق الأحداث آنذاك، كتلك التي ذكرتها سابقًا أن تأسيس مجلس التعاون الخليجي جاء برغبة أمريكية.
هذه الروايات الأيدلوجية كان مصدرها عده جماعات أيدلوجية في السبعينيات والثمانينات، مثل جماعة جهيمان التي احتلت الحرم المكي في عام 1979، وخطاب الثورة الإيرانية الذي كان ينتقد الشاه لتحالفه مع أمريكا وبعض اليساريين والقوميين العرب.
اعتمدت هذه الروايات على قصص الجماعات الأيدلوجية، التي كانت بحد ذاتها تشكل تحديًا داخليًا بالنسبة للدول الخليجية، كحادثة التفجيرات عند زيارة الشاه للكويت في سنة 1968 ، و”ثورة” ظفار في عمان، وحادثة جهيمان، وفي وقت لاحق تفجيرات المقاهي الكويتية، ومحاولة اغتيال أمير الكويت الشيخ جابر الأحمد في الثمانيات.
كل هذه الحركات الأيدلوجية كانت تتبنى فكره مقاومة التدخل “الاستعماري” الأمريكي، ومقاومته في المنطقة، بحسب ادعائها فالفكرة الأمريكية وتأثيرها على الخليج كانت منتشرة رغم عدم دقتها، أو بالأحرى عدم صحتها في كثير من المواضع.
ربما يصح هذا المنطق في حالة الاستعانة من قبل السلطة العمانية بالشاه للسيطرة على ثورة ظفار (هي أقرب لوصف حربٍ أهلية) التي كانت مدعومة من الصين والاتحاد السوفيتي ما بين عامي 1975-1965 ؛ فيبدو أنْ تم تعميم الحالة العمانية على جميع دول الخليج، وهو أمر خاطئ بطبيعة الحال، بحسب السياق التاريخي الذي سأعرضه، أضف إلى ذلك أنَّه بعد استقلال دولة البحرين في سنة 1971 تم الاتفاق بين حكومة البحرين مع الولايات المتحدة بأن تكون هناك محطة لوجستية عسكرية صغيرة جدًا في الجفر، وأيضًا صفقات السلاح التي أبرمت بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة في فتره السبعينات.
في حين أن الرواية التي تدعي أنَّ إنشاء مجلس التعاون جاء برغبة أمريكية تتجاهل أحداثاً تكاد ترى كنقيض لروايتها، مثل حادثة حظر البترول في أكتوبر 1973 ، الذي استمر لمدة ستة أشهر تقريبًا إلى مارس 1974 ، وتتجاهل أيضًا حملة الدعاية الأمريكية التي كانت تهدد دول الخليج بغزو أمريكي لحقولها في عام 1975 (سآتي على ذكرها لاحقًا). أيضًا تتجاهل أنه بجانب وجود قطبين رئيسين هما الاتحاد السوفيتي و الولايات المتحدة أن هناك محاولة لإنشاء قطب ثالث، وهو مجموعة دول عدم الانحياز، التي كانت تضم العديد من الدول مثل: مصر، وجنوب أفريقيا، ويوغوسلافيا، والهند، والكويت، والسعودية (حاليًا تضم منظمة عدم الانحياز 120 دولة )، وهو ما انعكس في التصريحات التي أدلى بها كل من وكيل وزارة الخارجية الكويتي رشيد الرشيد، ووكيل وزارة الخارجية الإماراتي دقباش للصحفي الروسي إلكسي فاسيليف (نشر كتاب بعنوان” بترول الخليج والقضية العربية”)، والتي أشارت صراحة أن الكويت والإمارات تسعيان إلى عدم الانضمام أو الانجرار خلف أي طرف من القطبين الرئيسين في فترة الحرب الباردة.
كذلك تتجاهل الرواية الأيدولوجية زيارة وزير الخارجية الكويتي آنذاك الشيخ صباح الأحمد بمعية أول رئيس لمجلس التعاون الخليجي السيد عبدالله بشارة إلى الاتحاد السوفيتي، وتم مقابلة وزير الخارجية السوفيتي، وتطمينه أن مجلس التعاون الخليجي لن يميل إلى طرف على حساب طرف، وأن الردَّ بحسب عبدالله بشارة وعلى لسان وزير الخارجية السوفيتي بأن السوفييت مطمئنون بأن مجلس التعاون سيكون قطبًا عربيًا جديدًا مستقلًا عن صراع الحرب الباردة الدائر بين القطبين.
تقع المشكلة الأيدولوجية في وصف العلاقات آنذاك في السياق التاريخي والتوقيت التي ظهرت به الرواية الأيدلوجية، حيث إنها تمثل عصرها الذي يميل إلى حالة من التشنج والسرعة في التصنيفات؛ لكونهم (أي الجماعات الأيدلوجية) جزءاً من الصراع الداخلي لدول الخليج، وحلفاءَ لدولٍ كانت تنشر هذ الفكرة عن الخليج كجزء من دعايتها. فيبدو أنهم اختاروا أن يتبنوا الرواية التي تقول: إن مجلس التعاون ولدَ أمريكيًا، وبدلًا من التحليل المعمق ذهبت هذه الآراء لتحليلٍ وتصنيفٍ سهلٍ وغيرِ دقيقٍ يتبنى الدعاية الإقليمية التي ترعاها الدول المتصارعة، ووصف الخصوم بكل سهولة “بالعملاء والخونة”.
بعد الغزو العراقي لدولة الكويت، قام الجانب العراقي بالتعاون مع قناة الجزيرة بنشر صورة نمطية، وهي أن فكرة مجلس التعاون هي فكرة أمريكية، وهي فكرة كانت أوهامًا في السبعينات والثمانيات، ولكن ربما يكون هناك شيءٌ من الصحة و القبول لجزء من هذا الخطاب بعد مرحلة 1991 التي فرضت نفسها من جرَّاء مغامرات صدام حسين المتهورة بغزوه لدولة الكويت؛ حيث إنه لم تتواجد أي قوات أمريكية في دولة الكويت أو المملكة العربية السعودية ما قبل تاريخ 1991 ، في حين فرضت المعادلة السياسية الإقليمية الدخول بتحالف صريح مع الولايات المتحدة نتيجة الغزو العراقي.
يذكر أن القوات الأمريكية تواجدت في جمهورية مصر منذ عام 1981 بعد اتفاق كامب ديفيد، في حين لم تتواجد هذه القوات في الكويت والسعودية.
إن السياق التاريخي والمرحلة الزمنية التي سبقت وصاحبت ظهور مجلس التعاون تظهر عكس ما يدعيه الخطاب الأيديولوجي، حيث إن المادة المتوفرة لدي، والتي سأعرضها في السياق التاريخي تبين أن ظهور مجلس التعاون جاء في زمن كانت فيه بعض دول الخليج وعلى رأسها دولة الكويت تقدم خطابًا سياسيًا معاديًا للولايات المتحدة، بل يمكن وصف الخطاب الرسمي والشعبي الكويتي بأنه كان خطابًا عنيفًا في اتجاه الولايات المتحدة، وكجزء ممتد لفكرة دول عدم الانحياز، وأن مجلس التعاون ظهر كقطب عربي جديد؛ لفرض معادلة توازن عربي بعد انضمام جمهورية مصر إلى التحالف الأمريكي الإسرائيلي في معاهدة كامب ديفيد.
لعرض الموضوع بطريقة علمية سأطبق النظرية الواقعية في العلاقات الدولية، التي تعتمد على النظر للقوة العسكرية والاقتصادية بمعناها العام، كمدخل لفهم أقطاب الصراع واللاعبين السياسيين (الدول) في جغرافيا سياسية معينة كالإقليم أو في العالم، وهو ما أطلق عليه بالملعب السياسي والأمني. وبالتالي لتطبيق النظرية الواقعية يجب تحديد اللاعبين السياسيين (الدول)، والجغرافيا السياسية التي يدور فيها الصراع (الملعب السياسي)؛ لتحليل المعلومات التي حصلت عليها، التي تغطي الفترة ما بين 1973 إلى 1981 ، وهو سياق ممتد لثماني سنوات، أقدم فيه أهم التحولات الإقليمية والدولية في المنطقة، وأعرض من خلال هذا السياق اللاعبين السياسيين من الدول، وأحدد فيه موازين القوى خلال تلك الفترة، وبناء عليه سأعرض النتيجة التي وصلت إليها، وهي: إن تأسيس مجلس التعاون الخليجي جاء لتكوين قطب عربي جديد؛ ليسد فراغ جمهورية مصر العربية التي تحولت إلى المعسكر الأمريكي الإسرائيلي بعد كامب ديفيد.
أعتقد أن نتيجة البحث بحد ذاتها تنفي الدور الأمريكي في تأسيس مجلس التعاون.
• السياق التاريخي وتحديد الأقطاب الإقليمية في سبعينيات القرن الماضي:
إن تأسيس مجلس التعاون الخليجي كان نتيجة تراكم أحداث وهزات تاريخية عنيفة واجَها إقليمَ الشرق الأوسط (الملعب السياسي والأمني)، والتي أحددها في المقال بالدول التالية: (اللاعبين السياسيين في الشرق الاوسط): جمهورية مصر، جمهورية العراق، (الشام): الجمهورية العربية السورية، مملكة الأردن، جمهورية لبنان وفلسطين – إسرائيل، (دول شبه الجزيرة العربية): دولة الكويت، المملكة العربية السعودية، دولة البحرين، دولة الإمارات، سلطنة عمان، ودولة قطر، وجمهورية اليمن، وجمهورية تركيا.
نستطيع أن نطلق على المساحة الجغرافية لهذه الدول بالملعب السياسي والأمني، حيث تتفاعل وتحتك هذه الدول مع بعضها؛ مما ينتج عنه سياسات عامة لهذا الإقليم، وتتنافس وتتعاون هذه الدول مع بعضها على مصالحها، وعلى أن تقود أو تؤثر في محيطها الإقليمي لزيادة نفوذها.
هذه الجغرافيا الإقليمية (الشرق الأوسط) من ضمن ملعب سياسي أكبر، وهو المعلب الدولي الذي كان يتنافس فيه قطبان هما: الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد السوفيتي، مع قوى ناشئة متمثلة في منظمة دول عدم الانحياز التي تحاول أن تجد موضع قَدَمٍ في الصراع المحتدم بين القطبين، لكنها لم تتكافأ من حيث القوة مع القطبين الأساسيين، وتُعرف هذه الفترة بالحرب الباردة 1990-1945.
ما يهمنا من الأحداث في الشرق الأوسط الآتي حرب أكتوبر في سنة 1973، والحرب اللبنانية الأهلية في عام 1975، يليها اتفاقية كامب ديفيد في سنة 1978، ومن ثم الصراع العراقي السوري ومشروع الوحدة بينهما الذي كان قاب قوسين أو أدنى في عام 1979.
إن هذه الأحداث لعبت دورًا محوريًا، وشكلت دافعًا لدى دولة الكويت للسعي لتشكيل قطب إقليمي عربي جديد، يتمثل بمجلس التعاون، لكن قبل الخوض في دور الكويت ودوافعها، سأروي جزءاً من الأحداث وإرهاصاتها على دول الخليج وخصوصًا دولة الكويت والمملكة العربية السعودية؛ لنعرف كيف شكَّلت هذه الأحداث دافعًا لتشكل مجلس التعاون الخليجي.
• دخول دول الخليج كلاعب إقليمي مؤثر في بداية السبعينيات:
بعد استخدام النفط كسلاح من قبل دول الخليج في حرب أكتوبر، زادت الثقة بدور الخليج، خصوصًا الكويت والسعودية، بحجم التأثير الذي يمتلكونه على الساحة الإقليمية، بل وحتى الدولية، فكان قطع النفط له تأثيرات مباشرة على المواطنين حول العالم، فالزيادات بأسعار البنزين ارتفع بصورة كبيرة؛ فتأثر جيب المواطن حول العالم في مأكله ومشربه، فالصناعات البترولية لها تأثيرات مباشرة على حياة البشرية.
من قَبْل حادثة قطع النفط بسنوات وأثناءها وبعدها كانت مقالات الصحافة وتصريحات الدبلوماسيين والقادة الكويتيين خشنة ومعادية للولايات المتحده، فقبل سنتين من قطع النفط صرَّح أمير الكويت الشيخ صباح السالم بالقول: “المعركة تبدأ بالبترول، وتضحيات الكويت أثمن من النفط”. وأثناء فترة قطع النفط كتبت جريدة القبس في افتتاحيتها على الصفحة الأولى مقالاً بعنوان: “متى نستعد لتدمير أمريكا”. أما سفير الكويت في واشنطن الشيخ سالم الصباح فقد قال: “على أمريكا أن تعتدل إن شاءت الحصول على النفط العربي”. أما الشيخ صباح الأحمد وزير الخارجية آنذاك فتصريحه ربما يكون أعنف التصريحات أثناء فترة قطع النفط فقد هدَّد الأمريكان بتدمير آبار النفط؛ حيث قال: ” حقول النفط ملغومة … وكل شيء سيتحول إلى رماد”.
كان حظر النفط نقلة نوعية للكويت والمملكة العربية السعودية من حيث ممارسة القوة والنفوذ على المستوى الدولي، مما أعطى لهما مكانة اللاعب الأساسي والفاعل في الإقليم، وزودهما بالثقة الكافية لممارسة دورهما الجديد.
فبحسب النظرية الواقعية قوةِ اللاعبِ السياسي (وهنا نتكلم عن الدول) تتحدد أدوارَه في المنظومة الدولية، وفِعْلُ حظرِ النفطِ وَضَعَ دولة الكويت والمملكة السعودية في القمة.
في حين كانت يتسابق القطبان العالميان (الاتحاد السوفيتي- الولايات المتحدة) في الساحة الدولية على زيادة الترسانة النووية لزيادة القوة العسكرية مما يضعهما في موقعِ قوةٍ أفضل على الساحة الدولية، ظهر السلاح الاقتصادي المكوَّن من النفط كقوة رئيسية فعالة على المستوى الإقليمي.
فعندما نتحدث عن مفهوم القوة بالنظرية الواقعية، فيجب النظر إلى القوة العسكرية والاقتصادية كعناصر للفاعلين الرئيسيين في الساحات السياسية (إقليمية – دولية). وفي جو من التضامن العربي في حرب 1973، كانت الدول العربية مجتمعة تشكل محورًا عسكريًا متوسط القوة إذا ما قورن بالاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، في حين أن النفط شكل القوة الاقتصادية، وبُعدًا مرعبًا حتى للقوى العظمى كالولايات المتحدة آنذاك.
يلتفت بعض المتخصصين إلى التأثير الواقع على الولايات المتحدة من جراء هذا الحظر، ولكن الحظر كان له تأثيرات عالمية، وأيضًا كان له تأثيرات مباشرة على إسرائيل، العدو المباشر في حرب 1973، فكان من تداعيات الحظر أنَّ إسرائيل دخلت في مرحلة كساد اقتصادي لعدة سنوات جراء الارتفاع الكبير في أسعار البترول، مما يعني أن قرار الحظر كان له تأثيرات مباشرة على إسرائيل وعلى الداعم الرئيسي لها وهو الولايات المتحدة.
إن المشهد الاقتصادي لحرب أكتوبر 1973 يدفعنا إلى رسم تصور عن حجم الثقة التي حصلت عليها دولة الكويت والمملكة السعودية آنذاك، مما دفعهما إلى لعب دور أكبر يتناسب مع حجم التأثير السياسي الدولي الذي جاء من قرار حظر البترول.
في عام 1975، نشرت الصحافة الأمريكية تهديدات لدول الخليج كجزء من آلة الحرب النفسية، فقد نشرت مجلة نيوزويك عدة تحليلات تنذر “بتدخل عسكري” أمريكي بالخليج إذا استمر الحظر النفطي، بل ذهبت نيوزويك إلى عرض خطة أمريكية لشكل ونوعية التدخل العسكري، وتسمية الوحدات المشاركة، وختمت المجلة الأمريكية بأن الحرب على الخليج ربما تكون نتائجها مأساوية.
في الفترة الممتدة ما بين بداية حرب أكتوبر 1973 إلى سنة 1978 عندما وقعت اتفاقية كامب ديفيد، كانت الثقة و المكانة الدبلوماسية لدولة الكويت تزداد، وتحولت إلى أفعال سياسية على الأرض، فبعد عملية حظر البترول، تحولت الكويت إلى قبلة رئيسية لرؤساء وزعماء العرب والعالم، لا يكاد يفوت فترة زمنية قصيرة حتى ترى صفحات الصحف تشير إلى زيارة رئيس عربي أو دولي للكويت، على سبيل المثال زيارة الرئيس الجزائري أبو مدين، زيارة الرئيس المصري أنور السادات، زيارة نائب الرئيس العراقي صدام، زيارة الرئيس السوري، زيارة جوزيف تيتو الرئيس اليوغسلافي، وأحد مؤسسي منظمة عدم الانحياز، والكثير من البعثات الدبلوماسية، مثل: زيارات البعثات الروسية، والفرنسية، وغيرها من الزيارات على مستوى القيادات السياسية العليا.
• تدهور العلاقات بين دول الخليج والولايات المتحدة:
أما بالنسبة للمملكة السعودية فكان حظر النفط بمثابة ضربة للعلاقات السعودية الأمريكية، وإضعافاً لما يطلق عليه عقيدة نيكسون (الرئيس الأمريكي) التي حددها في عام 1969 أثناء الحرب الفيتنامية ) 1955-1975)، عقيدة نيكسون كانت تعتمد على فكرة أساسية، وهي أن الولايات المتحدة تعقد صداقات مع الدول، وتوفر لها غطاء حماية نووية؛ لضمان استقلال هذه الدول الصديقة، من دون أن تتدخل الولايات المتحدة عسكريًا لصالح حلفائها، وهو مبدأ عام طُبِّقَ من قبل الولايات المتحدة مع كثير من الدول. أطلق على تطبيق عقيدة نيكسون في الخليج العربي بـ (twin Pillar Policy)، والتي اعتمدت على الارتكاز على السعودية وإيران كحليفين استراتيجيين في المنطقة، وكحماية من أي تدخل خارجي على الخليج الذي يعتبر المعبر الرئيسي لإمدادات الطاقة.
إلا أن هذه الاستراتيجية الأمريكية لم تكن ذات فاعلية، فمن جانب كان موت جمال عبدالناصر في سبتمبر 1970، الذي شكل تهديدًا أيدلوجيًا عبر خطاباته المعادية للخليج، وأمنيًا عبر تدخله في حرب اليمن (1970-1962)، ومن جانب آخر كانت المملكة السعودية تنظر لتدخل شاه إيران أثناء أحداث ظفار والتصريحات الإيرانية بخصوص أحقيتها بحكم البحرين تمددًا غيرَ مرغوب به لسواحل الغربية للخليج العربي. وبذلك زالت العوامل التي كانت تقرب المملكة العربية السعودية للولايات المتحدة سياسيًا، وذلك بزوال الخطر الأمني المتمثل في جمال عبدالناصر، والنظر إلى سياسات الشاه الحليف الأمريكي كعامل تهديد، مما دفع لمرحلة تضعف من عقيدة نيكسون في الخليج؛ ليأتي حظر النفط لتهمش الهدف الرئيسي لعقيدة نيكسون، فحظر النفط هدد بشكل مباشر إمدادات الطاقة التي جاءت عقيده نيكسون لحمايته.
ما زاد إضعاف عقيدة نيكسون في الخليج هو أن الدول العربية المصدرة للنفط، ومنها السعودية والعراق والكويت، بدؤوا إما بالمشاركة بإنتاج النفط مع الشركات الغربية العاملة في الخليج، أو بتأميم النفط، مُتَحَدِّيْنَ بذلك الشركات الغربية ذات النفوذ السياسي العالمي الواسع.
يذكر وزير النفط السعودي أحمد اليماني أنه برغم عدم توفر الإمكانيات العملية سواء بوجود كوادر للإنتاج أو التسويق لكميات نفطية كبيرة، مما أدى لخفض الإنتاج بعد التأميم. فقد وقَّعت المملكة العربية السعودية اتفاقية مشاركة إنتاج وتسويق لنفطها لأول مرة في عام 1972 بعد10 سنوات من المفاوضات مع الشركات الأجنبية كمرحلة أولية لإدارة النفط السعودي محليًا، وقامت العراق بتأميم النفط العراقي في سنة 1972، وأممت الكويت نفطَها بمرسوم أميري في سنه 1975. دخلت كل من أبوظبي والدوحة في مفاوضات مع الشركات الأجنبية للمشاركة والتأميم بنفس الفترة. كانت الكويت والمملكة العربية السعودية تدعمان العراق ودول الخليج الأخرى لإدارة نفطها، والمضي لتحويل النفط لإدارة وطنية محلية.
يذكر عندما قامت العراق بالتحرك بتأميم النفط، لعبت الكويت دورًا محوريًا بالدعم الدبلوماسي والإعلامي لتأميم النفط العراقي.
وبرغم أن هذه السياسات التي تعتبر غير مرضية للشركات النفطية، ولا لسياسات الولايات المتحدة، إلا أن الجماعات الثورية والأيدولوجيات المتطرفة دفعت في عام 1975 لخطف وزراء النفط في فيينا مِن قبل كارلوس الفنزويلي مدعومًا من القذافي، ووديع حدَّاد القيادي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وهوما يعكس السياق التاريخي الصعب والدقيق في أي عمل أو تحرك سياسي؛ سواء يفهم منه أنه معادٍ للولايات المتحدة التي كانت تلوح بتدخل عسكري بينما تضغط من الجانب الآخر الحركات الثورية العربية التي تمارس أعمال عنف كعملية خطف الوزراء.
أيضًا تعكس هذه الحادثة التداخل بين الجماعات السياسية، وعلاقتها مع الدول، يُذكر أن الخاطفين كانوا يريدون إطلاق سراح وزير النفط الكويتي عبدالمطلب الكاظمي، وإعدام كل من وزير النفط السعودي أحمد يماني، والإيراني جمشيت امزغار، إلا أن الوزير الكويتي أصر بأنَّه إما أن يطلق سراح جميع الوزراء، أو يتم عقابه معهم.
• التحولات السياسية في مواقع اللاعبين في الشرق الأوسط:
كان شمال الملعب السياسي للشرق الأوسط يضم الشام بدولها العربية الأربع + إسرائيل وتركيا (سآتي عليها لاحقًا بشيء من التفصيل)، في حين أن إسرائيل وتركيا كانتا تمثلان تحالفًا أمريكيًا، كانت الدول العربية ملتزمة بدعم التحالف العربي بقيادة مصر.
في الشام، في عام 1975 اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية، التي شكلت جبهة لاستنزاف الجهد والمال والقوة للعرب، وفتحت ثغرة شمالية تساهم في إضعاف المعسكر العربي الذي أظهر تماسكًا خلال حرب 1973، ومرحلة حظر النفط، ويبدو أن هذه الثغرة فتحت شهية الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل لتكثيف التدخل في شمال الشرق الأوسط، والتي تخللها الكثير من الحوادث التي أدت إلى الاجتياح الإسرائيلي للبنان في عام 1982.
وفي سياق أحداث شمال الشرق الأوسط، كانت العلاقة الأمريكية مع حليفتها الجمهورية التركية في حالة تذبذب، فقد انتشرت الجماعات اليسارية الموالية للاتحاد السوفيتي بين الشعب التركي. وما زاد المشهد تعقيدًا هو أنه في عام 1974 احتلت تركيا ثلثَ قبرص بسلاحٍ أمريكي كانت أمريكا زودت بها الجيش التركي في وقت سابق.
كان لهذه الحرب (التركية – القبرصية) أثر سلبي على العلاقات بين الدوليتين؛ فقد قامت الولايات المتحدة بوضع عقوبات على تركيا، وذلك عن طريق حظر بيع وتزويد السلاح، ووقف المساعدات المالية والعسكرية لتركيا، التي وصلت خلال 20 عام ( 1950-1970 ) إلى أكثر من خمسة مليارات دولار، عادت العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا بعدما قام الرئيس الأمريكي برفع هذا الحظر في سنة 1978، وذلك لاستقطاب الجمهورية التركية إلى المعسكر الأمريكي، وخوفًا من اتجاه الساسة الأتراك إلى التحالف مع الاتحاد السوفيتي في الوقت الذي كانت الأحزاب اليسارية الصاعدة تدفع لذلك، و كان العسكر الذي قادوا انقلاب هم من يقودون دفة السياسة التركية باتجاه الأمريكان آنذاك.
لكن هذه العلاقة التي وصفت بأنها لعبة سياسية صعبة، دفعت الأتراك إلى بناء علاقات مع المنظمات الفلسطينية، في الوقت التي كانت فيه تركيا على علاقة وثيقة بإسرائيل.
ظلت العلاقة بين الولايات المتحدة وتركيا متذبذبة حتى الغزو العراقي للكويت، الذي دفع تركيا للمعسكر الأمريكي.
سعت الولايات المتحدة إلى تفكيك التحالف العربي الناشئ الذي يمتلك قوة عسكرية متواضعة، في حين أنه يمتلك سلاحًا اقتصاديًا فعالًا، وكانت الاستراتيجية الأمريكية ترتكز على تفكيك التضامن العربي من جانب، وتشكيل أقطاب لمحاصرة الشرق الأوسط، وهنا كانت تستند الولايات المتحدة للمملكة الإيرانية والشاه كشرطيٍّ للخليج في جانبه الشرقي، وإسرائيل وتركيا (المتذبذبة بعلاقتها) في الجانب الشمالي، وبدأت بالعمل لاستقطاب أهم لاعب عربي في الشرق الأوسط، وهي جمهورية مصر، التي كانت جبهة الجانب الغربي الأساسية من ملعب الشرق الأوسط.
• خارطة القوى السياسية ما بعد كامب ديفيد:
في وسط تصاعد الدور الكويتي السعودي في النفوذ والتأثير في المحيط الإقليمي فاجأ الساداتُ العالمَ بخطبته في البرلمان المصري عندما ذكر أنه سيقوم بزيارة الكنيست لتحقيق السلام، الذي تبعه اتفاق كامب ديفيد في سنة 1978. كانت تتمثل خريطة القوى الإقليمية (الملعب السياسي) بالشكل التالي، في شرق الخليج، تمثل المملكة الإيرانية بقيادة الشاه عمودًا أساسيًا للسياسة الأمريكية، في الجانب الشمالي تمثل تركيا وإسرائيل الواقعتين على ضفاف البحر المتوسط المحور الأمريكي الثاني في محاصرة الدول العربية (البعد الجغرافي الشمالي لدول شبه الجزيرة)، في الجانب الغربي لدول الخليج، جاء مصر بعد معاهدة كامب ديفيد لتشكل المحور الثالث في الحصار الأمريكي للدول العربية الواقعة في الجزء الآسيوي (دول الخليج، شبه الجزيرة العربية – العراق – سوريا – لبنان – الأردن- فلسطين).
بعد معاهدة كامب ديفيد في 1978، كان هذا الحصار السياسي والأمني يشكل هاجسًا للدول الواقعة بين الخليج العربي والبحر الأحمر، فهناك أربع دول ذات قوة عسكرية، ثلاث منها (إيران- مصر- تركيا) يملكون كثافة سكانية عالية، والدول الأربع التي شكلت الحصار السياسي والأمني تملك قوة عسكرية لا يمكن مضاهاتها من قبل الدول الواقعة بين ضفاف البحر الأحمر والخليج العربي والبحر المتوسط.
حاولت كل من الكويت والسعودية إقناع السادات للعدول عن المضي في اتفاقية كامب ديفيد، فأرسلوا الوفود التي استقبلت في مصر استقبالًا سلبيًا، وعرضوا على القاهرة حِزَمًا من التمويل، تصل إلى مليارات الدولارات، إلا أن الجانب المصري كان مصرًا على الاستمرار في الدخول بالحلف الأمريكي الإسرائيلي، وقامت الصحافة المصرية بهجوم عنيف على دولة الكويت والمملكة العربية السعودية؛ فطلبت السلطات الكويتية من الصحافة الكويتية عدمَ الرد على الصحافة المصرية، حتى تتمكن من تهدئة الأوضاع، وخلق بيئة ملائمة للتفاوض مع الجانب المصري، إلا أن القاهرة مضت في خطتها، ووقّعت اتفاقية كامب ديفيد في عام 1978.
مع قراءة هذا السياق ووضوح اتجاهات القوى السياسية متمثلة بالدول، قدمت دولة الكويت حلولًا استراتيجية وسعت لإنجازها، وكانت هذه الحلول تتمثل بتشكيل أقطاب عربية جديدة تسد من جانب الفراغ الذي تركته جمهورية مصر بعد انضمامها للتحالف الأمريكي، ومن جانب آخر تشكل حاجزًا دفاعيًا سياسيًا وأمنيًا لهذه الدول الواقعة تحت هذا الحصار الرباعي الذي تقوده الولايات المتحدة.
تبنت دولة الكويت حَلَّيْنِ رئيسين، الأول: تشكيل جمهورية عربية متحدة بين العراق وسوريا، والحل الثاني: هو تشكيل مجلس التعاون الخليجي.
• الحلول الكويتية لسد الفراغ المصري بعد معاهدة كامب ديفيد:
في الحل الأول، سعت الكويت لتقريب وجهات النظر السورية العراقية عبر الوساطة الكويتية التي سعت إلى تليين العلاقة بين سوريا والعراق التي كانت متوترة ومتشنجة بين الطرفين، فقام القادة الكويتيون ممثلين بالشيخ سعد ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء آنذاك، والشيخ صباح الأحمد وزير الخارجية بنفس الفترة بعدة زيارات للجانبين، ودعت الرئيس السوري والرئيس العراقي لزيارة الكويت لتقريب وجهات النظر، للتمكن من تشكيل وحدة سورية عراقية تشكل قطبًا عربيًا جديدًا لسدِّ الفراغ المصري للقيادة العربية، ولتشجيع هذه الوحدة قامت دولة الكويت بطرح مشاريع اقتصادية تدعم بها اقتصاد العراق، بجانب حزمة من الدعم المالي إذا قام الاتحاد بين البلدين، لكن لم يكتمل المشروع نتيجة انقلاب نائب الرئيس العراقي صدام حسين على الرئيس أحمد حسن البكر، وبعد ذلك تم إعدام كل العراقيين المؤيدين للوحدة العراقية السورية في الحادثة المعروفة بواقعة (قاعدة الخلد) في بغداد.
• الشيخ سعد العبدالله يدشن حملة تأسيس مجلس التعاون الخليجي:
بالتزامن مع إطلاق الحل الأول، سعت الكويت إلى الحل الثاني، وهو تشكيل قطب لدول الخليج العربي مجتمعة، يدعم العرب، ويسد الفراغ المصري.
برز دور الكويت في تشكيل القطب الخليجي الجديد في ديسمبر 1978 بقيادة الشيخ سعد العبدالله الذي كان له دور محوري في تقريب وجهات النظر الخليجية، وإقناع الدول الخليجية الست بالمحور الخليجي.
قام الشيخ سعد برحلة مكوكية استغرقت ثمانية عشرة يومًا لتأسيس مجلس التعاون، وقد بدأ قبل سنة وخمسة شهور من إعلان تأسيس مجلس التعاون، الذي تم الإعلان عنه في الرياض في مايو 1981. عنونت الصحافة الكويتية انطلاق رحلة الشيخ سعد بـ”قطار العمل الكويتي في رحلته الخليجية”.
كانت مهمه الشيخ سعد تواجه عقبات صعبة كادت تؤدي إلى فشل الفكرة السياسية بتشكيل قطب عربي قومي خليجي، من هذه المصاعب الصراعات الحدودية والمشاكل العالقة بين دول الخليج، على سبيل المثال المشكلة الحدودية البحرية بين الكويت (استقلت في عام 1961) والسعودية (تأسست في عام 1932) في الجرف البحري القاري، والمشكلة الحدودية البحرينية القطرية (استقلت كل من البحرين وقطر في عام 1971) على جزر حوار، والمشكلة العمانية الإماراتية (تأسست سلطنة عمان الحديثة في عام 1970 ، وأعلن تأسيس الإمارات في عام 1971). لم تقتصر هذه العقبات على المشاكل بين الدول، بل كانت هناك مشاكل داخلية في بعض الدول الخليجية، على سبيل المثال كانت هناك مشكلة داخلية قطرية داخل بيت الحكم بين بن سحيم وبن ثاني، وهناك فتور بالعلاقات بين الإمارات السبع التي شكلت دولة الإمارات في عام 1971. كان على الشيخ سعد أن يعمل في أجواء سياسية صعبة للوصول إلى صيغة خليجية مشتركة، تضع حجر الأساس لمشروع القطب الخليجي العربي الطموح.
برغم الصعوبات التي واجهها الشيخ سعد في مرحلة التأسيس إلا أنه استطاع أن يوحد دول مجلس التعاون على أرضيات مشتركة، أدت إلى قبول وتحفيز الدول الخمس الخليجية التي زارها الشيخ سعد لإصدار تصريحات تدعم وتؤيد هدف الشيخ سعد من زيارته الخليجية.
فقد أثمرت زيارة الشيخ سعد للمملكة ولقائه الملك فهدًا إلى برنامج تعاون بين البلدين، أطلِق عليه “البرنامج الشامل بين البلدين”، كان يصبو هذا البرنامج إلى هدفين، الأول: تطوير سبل التعاون بين البلدين؛ وصولًا إلى الوحدة الخليجية، والهدف الثاني: إبعاد المنطقة عن الصراعات الدولية، وهو هدف يماثل أهداف منظمة عدم الانحياز.
تشكلت لجنة من وزراء خارجية البلدين لمتابعة الموضوعات، كان يمثل الشيخ صباح الأحمد الجانب الكويتي، في حين مثَّل الجانب السعودي الأمير سعود الفيصل. بعد الرياض زار الشيخ سعد البحرين، وقابل أمير البحرين آنذاك الشيخ عيسى بين سلمان آل خليفة، واتفقا على توحيد القوانين الاقتصادية، والسماح للمواطنين البحريين دخول سوق الكويت للأوراق المالية، وتشكيل شركات بحرينية كويتية مشتركة، والتنقل بين الدول الخليجية بالبطاقة المدنية، وأعربت البحرين عن حماسها للوحدة الخليجية، وعن استعدادها لتكون مقرًا للاتحاد الخليجي في المنامة الذي سمي بالجامعة الخليجية الموحدة، والذي ستموله كلٌّ من الكويت والسعودية. تشكلت لجنة وزارية بين البلدين تشبه تلك التي أسستها الكويت مع المملكة، وكان هدفها الذي تم التصريح به هو “الوحدة الخليجية”.
كانت ردود فعل الصحافة تزداد يومًا بعد يوم، وكانت متفائلة بالوحدة الخليجية بعد زيارة الشيخ سعد لكل من الرياض والمنامة؛ حيث تصدرت عناوين الصحافة عناوين مثل ” الوحدة الخليجية قيد التنفيذ”، و “الوحدة العربية على الطريقة الخليجية”.
مع وصول الشيخ سعد لدولة قطر كان عجلة التوافق على مشروع الوحدة الخليجية بدأت تأخذ زخمًا بين دول الخليج؛ فقد صرح ولي العهد القطري حمد بن خليفة عند وصول الشيخ سعد إلى الدوحة بالقول: “نؤمن بتوحيد الخليج من منطلق قومي”.
وتشكلت لجان ثنائية بين البلدين تمهيدًا لتأسيس مجلس التعاون، خلال زيارته للدوحة قام الشيخ سعد بعمل صلح بين أفراد الأسرة الحاكمة القطرية بين جناحَي آل ثاني وبن سحيم، وهو ما تم بنجاح من قبل الشيخ سعد.
بعد ذلك انطلق الشيخ سعد إلى دولة الإمارات المتحدة في زيارة ترمي إلى تقوية الروابط بين الإمارات الاتحادية، ومن ثمَّ إدخالهم في مشروع مجلس التعاون الخليجي، وهذا ما تم بالفعل؛ فقد اجتمع الشيخ سعد مع حكام الإمارات، ودعاهم إلى الانخراط بالوحدة الخليجية، الذي دعَمَه الشيخ زايد آل نهيان، وحمَّل الشيخ زايد الشيخَ سعدًا رسالة إلى سلطنة عمان يبلغ فيها السلطان قابوسًا برغبة الإمارات بتوثيق العلاقات مع عمان.
انتهت زيارة الشيخ سعد من الإمارات ببيان مشترك يؤكد على الوحدة الخليجية والتعاون الاقتصادي، ودعم الوحدة الإماراتية الناشئة.
وصل الشيخ سعد إلى محطته الخليجية الأخيرة، وهي سلطنة عمان؛ حيث زار الشيخ سعد مسقط، وظفار، والتقى بشيوخ ورؤساء القبائل العمانية، وكانت الوحدة الخليجية وأمن الخليج على رأس أولويات المواضيع التي بحثها الشيخ سعد مع السلطان قابوس.
تم إبلاغ الشيخ سعد أن عمان مستعدة للتعاون والوحدة الخليجية، وأن عمان تدعم “النهج الاقتصادي والسياسي الموحد”.
في 20 ديسمبر 1978، عاد الشيخ سعد إلى الكويت بعد أهم رحلة سياسية خليجية امتدت إلى 18 يومًا، تكللت بنجاح في تقريب وجهات النظر، وبتشكيل لجان ثنائية على أعلى المستويات وصولًا إلى خلق زَخَمٍ وقناعة لدى دول الخليج السِّتِّ بتأسيس مجلس التعاون الخليجي.
استقبلت الصحافة الكويتية الشيخَ سعدًا بعنوان “أهلًا بالسعد العائد من رحلة الخير”، و “أهلًا برسول الوحدة الخليجية”، وصرح الشيخ سعد بأن “الجولة حققت أهدافها”، وأن “التعاون الخليجي سيعود على المنطقة بالرخاء والازدهار والاستقرار”.
إن الدور الذي قام به الشيخ سعد في جولته لتأسيس مجلس التعاون من الصعب تجاهله في مسيرة تأسيس مجلس التعاون، بل إن دور الشيخ سعد أعتقد بأنه يستحق التكريم، وأقل ما يمكن عمله هو تسمية أحد قمم الخليج باسم الشيخ سعد؛ تخليدًا لدوره السياسي والدبلوماسي في تلك المرحلة الصعبة.
لقد واجهت الشيخ سعدًا في رحلته لتأسيس مجلس التعاون الكثير من العقبات؛ سواء كانت داخل الدول نفسِها أو على مستوى علاقة الدول الخليجية مع بعضها، لكنه تجاوزها، ووصل إلى تأسيس منظمة مجلس التعاون الخليجي، والإعلان عنه في مايو 1981.
• سياق الاحداث بعد جولة الشيخ سعد الخليجية:
وبعد شهرين من عودة الشيخ سعد العبدالله من رحلته الخليجية التي شكلت الأرضية الأساسية لانطلاق مجلس التعاون الخليجي، أطاحت الثورة الإيرانية بالشاه محمد رضا بهلوي في فبراير 1979، وصعودِ تدريجي لفكرة الدولة الإسلامية التي أعلن عنها السيد الخميني في إبريل في نفس السنة حيث قال: إن هناك نسبة تتعدى 90% من الشعب تؤيد قيام الجمهورية الإسلامية.
يتضح أن التحرك العملي لتأسيس مجلس التعاون الخليجي بدأ قبل خروج الشاه من إيران، وقبل حتى إعلان نظام الجمهورية الإسلامية، وقبل حتى أن تُعرف توجهاتُ نظامِ الحكمِ الجديدِ أساسًا.
يظهر من السياقِ التاريخيِّ والدوافع السياسية التي أسست لظهور مجلس التعاون أن مجلس التعاون تم إنشاؤه كقطب عربي جديد غير منحاز لأي قطب سياسي، وأنه طرف مستقل يسعى لحفظ مصالحه الاقتصادية والأمنية من التدخلات الخارجية ومن الأيدولوجيات المتطرفة داخليًا.
إن سياق الأحداث وتواريخ حصولها ينفي قول أصحاب نظرية المؤامرة بأن مجلس التعاون الخليجي أنشئ بأوامر أمريكية للتصدي للثورة الإيرانية؛ حيث إن الخطوات العملية لتأسيس مجلس التعاون ابتدأت قبل الثورة الإيرانية.
بالتزامن مع نجاح الثورة الإيرانية ظهرت سياسات أمريكية جديدة في المنطقة، أطلق عليها عقيدة أو مبدأ كارتر.
إن مبدأ كارتر يوضح حجم المأزق الأمريكي في منطقة الخليج في عام 1980 ، وعدم فعالية عقيدة نيكسون في المنطقة بعد إحدى عشرة سنة من إطلاقها، فبعد الاحتلال السوفيتي لأفغانستان في عام 1979، وحظر النفط الخليجي، وتبني دولة الكويت تحديدًا سياسية عدم الانحياز، بجانب خطها القومي العربي الذي يحمل خطابًا خشنًا باتجاه الولايات المتحدة، كما أن خسارة الولايات المتحدة لحليفها الأساسي في المنطقة المتمثل في سقوط المملكة الإيرانية التي يحكمها الشاه، وتأسيس الجمهورية الإسلامية بقيادة آية الله الخميني شكل لدى الولايات الأمريكية تساؤلات عن ماهية الحكم الجديد، وبالرغم من لغة العداء الملحوظة في الخطاب الإيراني إلا أن الإدارة الأمريكية مازالت في البدايات في حيرة باتجاه النظام الجديد.
إن عامل دولة خليجية مؤثرة كالكويت غير حليفة مع الولايات المتحدة، وسقوط الشاه الحليف الأبرز للولايات المتحدة، دفع الإدارة الأمريكية للتفكير في وضع خطة تأمين خطوط الطاقة المتمثلة بالنفط، والتي نتج عنها مبدأ كارتر.
إن مبدأ كارتر يتمثل في استخدام قوة عسكرية للسيطرة على الخليج، ولم يسعَ المبدأ إلى مد نفوذ عسكري بالتراضي، كوضع قواعد عسكرية في دول الخليج كما يصور الخطاب الإيديولوجي.
بحسب كلام كارتر فإن “أي محاولة من قوة خارجية للسيطرة على الخليج العربي ستعتبر تهديدًا مباشرًا لمصالح الولايات المتحدة الأمريكية، وستتعامل الولايات المتحدة مع هذا التدخل بكل الأشكال الضرورية، ومن ضمنها التدخل العسكري”. نظر بعض المحللين أن عقيدة كارتر تدعو إلى احتلال مباشر لدول الخليج معللين ذلك بحماية مصالحها.
يعني هذا أن الولايات المتحدة تنظر لدول الخليج وخصوصًا الكويت بصورة سلبية، لا بصورة تحالف ومنطقة نفوذ آمنة، كما يصور الأيدلوجية أن الدليل على ذلك هو خطة استخدام القوة العسكرية للانقضاض على حقول البترول الخليجية.
في الختام:
يمكن القول: إن تأسيس مجلس التعاون أتى نتيجة ظروف إقليمية وعربية ملتهبة، وأن انضمام جمهورية مصر إلى التحالف الأمريكي – الإسرائيلي شكل فراغًا عربيًا دفع دولة الكويت إلى تبني مشاريع عربية تملؤ الفراغ المصري، ومن هذه المشاريع تأسيس مجلس التعاون الخليجي الذي ولد في سياق تاريخي ممتد منذ حرب أكتوبر الذي قامت به الدول الخليجية بقطع النفط مما عزز ثقتها بدورها الإقليمي، ومن ثمّ تأميم النفط الخليجي والعراقي، وإبعاد أو تقليل نفوذ الشركات الأمريكية على النفط العربي والخليجي، إلى تأسيس مجلس التعاون الخليجي كنموذج قومي عربي، يحمي مصالح دول الخليج التي تقع في قلب الشرق الأوسط، وأيضًا لتعزيز نفوذ الدول الخليجية في السياسات الإقليمية، وليس كما يتداول أنه مشروع أمريكي، بل هو مشروع على النقيض من ذلك.
ملف PDF للقراءة
قراءات جديدة لتاريخ الخليج العربي٢
This post has already been read 145 times!