تعيش الولايات المتحدة الأمريكية على واقع أزمات مبطنة ظهرت كثير من علاماتها على السطح في السنوات الماضية بدءاً من الأزمات الاقتصادية وصولاً لأزمة الرئاسة وقضايا ترامب واختلاف خطابات المرشحين الرئاسيين بين اليمين واليسار والرؤية العميقة لدور ومستقبل أمريكا في العالم.
هذا الصراع الدفين ليس وليد اللحظة لكن تسارع أحداثه يبعث تساؤلات عن مسار الإمبراطورية الأمريكية في ظل اقتراب سياقها الرئاسي الذي يبدو أن ترامب سيخوضه عن الجمهوريين برؤيته المنغلقة ونظرة تفوق العرق الأبيض، وهذه نزعة لها أنصارها بقوة والذين بدأت أصواتهم بالتصاعد مؤخراً ويبدو أن أحدث فصولها ما يجري في ولاية تكساس الأمريكية هذه الأيام.

أهمية الحدث ودلالة التوقيت
منبع المشكلة اختلاف رؤية حاكم الولاية الجنوبية مع السلطات الفدرالية التي أيدها حكم القضاء الاتحادي، بضرورة رفع الأسلاك الشائكة على حدود ولاية تكساس مع المكسيك.
الولاية نفسها عاشت وضعاً حساساً في السابق مع مطالب بخروج الولاية من اتحاد الولايات (texit) في دعوات متكررة كان آخرها صيف 2022 بإعلان حاكم الولاية الجمهوري، إن الرئيس بايدن غير شرعي، والدعوة لاستفتاء حول انفصال تكساس عن الولاية.
وجاء تصعيد الأزمة بعد تقدّم المرشح والرئيس السابق، دونالد ترامب، في عدة ولايات في التحضيرات الأولية للسباق الرئاسي واحتقان الأجواء في الولايات المتحدة حول شخصية الرئيس المقبل.

كواليس الحدث وتداخلاته
رفض غريغ آبوت، حاكم ولاية تكساس الجمهوري، الامتثال لقرار المحكمة العليا الأمريكية القاضية بإزالة الأسلاك الشائكة التي وضعتها تكساس على حدودها مع المكسيك، لمنع المهاجرين غير الشرعيين من الدخول للولاية، بعد أن انتهت قبل يومين المهلة المحددة التي وضعتها إدارة بايدن لولاية تكساس للامتثال وإزالة الأسلاك الشائكة.
ليعلن الحاكم أن ولايته «مستعدة لحرب أهلية مع إدارة بايدن»، معتبرًا أن هذه معركة من أجل مستقبل أمريكا.
اللافت هو تسابق عدة ولايات جمهورية لتأييد حاكم تكساس في خطواته واستخدامه للحرس الوطني في إغلاق الحدود، حيث أيده الرئيس السابق ترامب، كما أعلنت ولاية فلوريدا أنها ستستخدم حرسها الوطني لدعم الحرس الوطني في تكساس. ليؤيد جميع حكام الولايات الجمهوريين في 25 ولاية أمريكية، ولاية تكساس في النزاع الحدودي مع إدارة الرئيس بايدن، ويقولون إن الرئيس يترك البلاد عرضة للهجرة غير الشرعية في البلاد، ما يفجّر أزمة دستورية في البلاد، تذكّر ببدايات الحرب الأهلية قبل قرن ونصف.

خصوصية ولاية تكساس
مما يظهره تاريخ الولايات المتحدة خصوصية وضع ولاية تكساس، التي كانت تابعة للمكسيك في بدايات القرن الـ 19، ثم شكلت جمهورية مستقلة لتنضم بعد ذلك للولايات المتحدة، حيث يستذكر أبناء الولاية تاريخ “جمهورية تكساس” كفترة تحقق لهم فيها الاستقلال وتحقيق الذات، مقابل تدخلات الحكومة الاتحادية في واشنطن.
وشهدت تسعينيات القرن العشرين، رواج فكرة انفصال تكساس عن الولايات المتحدة مجدداً، حيث تأسست في ذلك الوقت “منظمة جمهورية تكساس” التي رأت أن الولايات المتحدة قد ضمت تكساس إليها بشكل غير قانوني. لتشهد الولاية الجنوبية عام 2005، تأسيس حركة تكساس القومية من إحدى فصائل المنظمة، التي انشقت لرفضها ممارسات المنظمة العنيفة إيماناً منها بالحلول السياسية، لتحقيق الاستقلال السياسي والاقتصادي والثقافي التام لتكساس التي تعتبر من أهم ولايات أمريكا ومركز الطاقة الرئيس فيها لكبرى شركات النفط وعدد السكان والمساحة الكبيرة على مستوى بقية الولايات.

نظرة في المستقبل
تُظهر التقاطعات أن الولاية ذات الثقل الجمهوري، تتصاعد فيها أصوات الانفصال مع تولي رئيس ديمقراطي للحكم، وهذا ما شهدناه في حكم بايدن، حيث ظهرت فكرة الانفصال عام 2021 مع دخولها بنقاشات الحزب الجمهوري في الولاية والمطالبة بإجراء استفتاء غير ملزم حول فكرة الانفصال.
في العام ذاته، كتب الصحفي والمؤلف ريتشارد كرايتنر، المتخصص في تاريخ الانفصالية في الولايات المتحدة، أنه حان الوقت “لأخذ الحديث عن الانفصال على محمل الجد”.
فكرة الانفصال ليست مقصورة على الجمهوريين فحسب، فقد أظهر استطلاع للرأي أجري العام الماضي أن نسبة الديمقراطيين الراغبين في الانفصال بلغت أكثر من 40 في المئة في بعض الولايات. وفي أعقاب فوز الرئيس السابق ترامب بالانتخابات، كانت هناك أصوات في ولاية كاليفورنيا على سبيل المثال، تطالب بانفصالها عن الاتحاد.
لكن ما تزال فكرة الانفصال ضمن إطار المناكفات السياسية والمكائد لتحصيل حقوق ومكتسبات انتخابية وغيرها في كل ولاية على حساب الاتحاد القائم على هامش استقلال مريح نسبياً لكل ولاية يمنحها حقوقاً مهمة ويعرقل أي خطط حقيقية لانفصال الولايات في المدى المنظور، لكن المؤكد أن الولايات المتحدة تعيش أزمات وجودية ازدادت مؤشراتها وكثرت وتضع البلد الأقوى في العالم أمام مفترق طرق مستقبلي احتمالاته مفتوحة ومتنوعة في ظل الانقسامات السياسية المتعمقة في الولايات المتحدة.

انقسام واستقطاب
قبل شهر من الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي أجريت في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2020، أظهر استطلاع للرأي أن نحو ثمانية من بين كل 10 ناخبين مسجلين من كل من الحزبين يرون أن الخلافات مع الجانب الآخر هي خلافات حول القيم الأمريكية الأساسية، وليس فقط حول السياسات. وفي كثير من الأحيان، أصبحت الانتماءات العرقية والعقائد الدينية تتقاطع مع الهوية الحزبية.
ويرى البعض أن الأصوات الداعية لانفصال الولاية تتعالى كلما تولى رئيس ديمقراطي الحكم في البلاد.
ويعزو كثير من المحللين أسباب تلك الدعوات إلى ما يعتبرونه حالة غير مسبوقة من الاستقطاب والانقسامات السياسية المتعمقة في الولايات المتحدة. وتشير العديد من الدراسات إلى تزايد الخلافات بين الديمقراطيين والجمهوريين حول العديد من القضايا، من بينها التغير المناخي، إنفاذ القانون وتطبيق عقوبة الإعدام، الحق في حمل السلاح، سياسات الهجرة، والسياسات الاقتصادية، والسياسة الخارجية للبلاد.
This post has already been read 930 times!

