مع تطورات الحرب الروسية الأوكرانية، تبدت في الآونة الأخيرة بعض الإشارات المقلقة بخصوص إمكانية انتقال الحرب لحوض البحر الأسود، وهو ما لا تريده تركيا وتسعى لتجنبه.
مؤشرات مقلقة
ألم يكن اتفاق تصدير الحبوب عبر ممر مائي في البحر الأسود العام الفائت بوساطة تركية ورعاية أممية مجرد اتفاق اقتصادي يسعى لتأمين احتياجات العالم من الحبوب والمواد الغذائية وضبط الأسعار العالمية وحسب، ولكنه كان من زاوية ما مبادرة لنزع فتيل اشتعال حوض البحر الأسود كجبهة إضافية في الحرب الروسية الأوكرانية.
الاتفاق أوجد آلية للتعاون -غير المباشر- بين موسكو وكييف في مجالات غير حربية ومنع احتكاكات محتملة بين الجانبين في ما يتعلق بالسفن التجارية من الموانئ الأوكرانية وإليها. ولذلك فقد كان تجميد روسيا مشاركتها في تطبيق الاتفاق اكثر من مرة مؤشرا على احتمال حصول احتكاكات من هذا النوع من الجانبين المتحاربَيْن، ولذلك أيضا كان إعلان الانسحاب في يوليو/تموز الفائت إيذانا بقرب هذا النوع من الأحداث، إذ إن غياب التعاون لا يفتح الباب فقط على الاحتكاكات غير المقصودة، ولكن كذلك على التحدي والاستفزازات واستهداف الآخر.
ولئن قالت كييف -على لسان أكثر من مسؤول- إن التصدير يمكن وينبغي أن يستمر ولو من دون مشاركة موسكو وضماناتها الأمنية، وسعت في هذا المسار فعليا، كما أكد أكثر من مسؤول أوكراني أن هذا هو “المسار الأسهل والأسرع والأكثر أمنا” لتصدير الحبوب، فإن ذلك لا ينفي المخاطر المذكورة.
هذا المعنى أكدت عليه التصريحات الروسية بعد قرار الانسحاب، إذ قال الناطق باسم الكرملين ديمتري بيسكوف إنه “في غياب ضمانات أمنية مناسبة، تظهر مخاطر معينة، وإذا ما أقرَّ شيء من دون روسيا، فينبغي أخذ هذه المخاطر في الحسبان”. كما أبلغ وزير الخارجية الروسي نظيره التركي بأن انسحاب بلاده سحب الضمانات الأمنية للملاحة، مما يجعل شمال غرب البحر الأسود “منطقة خطرة مؤقتا لعبور السفن”.
أكثر من ذلك، فقد قصفت روسيا ميناء لتخزين الحبوب في منطقة أوديسا في رسالة مباشرة أو تطور غير مباشر يمكن فهمه كتحذير بخصوص المخاطر التي يمكن أن تنشأ عن التصدير من دون تفاهم أو ضمانات.
الرسالة الروسية الأبرز مؤخرا كانت تفتيش سفينة تجارية في البحر الأسود للتأكد من عدم نقلها أسلحة لأوكرانيا بعد إطلاق طلقات تحذيرية تجاهها، وتلميح موسكو بعزمها تفتيش أي سفينة تقصد الموانئ الأوكرانية مستقبلا بالذريعة نفسها. فُهمت الخطوة الروسية كرد على أوكرانيا وتحذير لها من مغبة محاولة التصدير أو تشجيع الملاحة من دون التوافق معها، وهو أمر يفتح الباب -كما هو واضح- على احتكاكات محتملة ومن الطابع العسكري تحديدا.
من جهة ثانية، تحمل دعوة كييف لتنشيط حركة الاستيراد والتصدير بدون ضمانات أمنية من موسكو محاولة من الأولى لاستدراج حلف شمال الأطلسي (ناتو) للانخراط أكثر في الحرب في مواجهة روسيا وعدم الاكتفاء بالدعم والتسليح عن بعد، وهو أمر لا يحتاج للتدليل على مخاطر احتمالاته المستقبلية. يضاف لكل ذلك استهداف أوكرانيا لشبه جزيرة القرم بشكل متكرر بما ينذر بتفاقم التطورات في حوض البحر الأسود بشكل مستمر.
دور تركيا
بالنظر لكل ما سبق، فإن احتمال حدوث تصعيد أو احتكاك عسكري بين روسيا وأوكرانيا في البحر الأسود أعلى اليوم مما كان عليه في أي وقت مضى، وإن كان هذا الاحتمال ما زال ضعيفا وفق المعطيات الحالية، إلا أن مجرد وجود هذا الاحتمال وارتفاع حظوظه عن السابق أمر مقلق لأنقرة التي حاولت -ولا تزال- تجنب هذا النوع من السيناريوهات.
فقد قررت تركيا منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية الحفاظ على موقف متوازن قدر الإمكان منها، وهو موقف يمكن وصفه بـ”الحياد الإيجابي”، إذ شجبت الغزو الروسي للأراضي الأوكرانية، لكن من دون استعداء موسكو أو الانخراط في العقوبات الغربية عليها، محافظة على علاقات جيدة مع الجانبين؛ وهو ما أهلها لاحقا للعب دور الوساطة بينهما وتحقيق بعض الاختراقات المهمة مثل جمع وزيري خارجيتيهما على طاولة التفاوض والحوار واتفاق تصدير الحبوب وتبادل الأسرى.
ورغم الضغوط التي تعرضت لها تركيا من الجانبين وخصوصا حلف الناتو والولايات المتحدة، فإنها استطاعت الحفاظ على هذا التوازن النسبي والعلاقات الجيدة مع الطرفين، إلا أن ذلك اختل مؤخرا بشكل نسبي.
فإن تسليم أنقرة الضباط الأوكرانيين إلى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، ثم إحالتها ملف انضمام السويد للناتو للبرلمان، أديا إلى موقف متشنج من موسكو تجاهها، تجلى في انسحاب روسيا من اتفاق تصدير الحبوب ثم تأجيل بوتين زيارة كانت مجدولة له لتركيا ثم تفتيش سفينة تجارية -تعود لشركة تركية- كانت تقصد أوكرانيا في البحر الأسود بعد إطلاق طلقات تحذيرية نحوها.
بناء على ما سبق، ورغبة في نزع فتيل التوتر في البحر الأسد على وجه التحديد، تولي أنقرة اهتماما لزيارة الرئيس الروسي المزمعة لها، وقد بحث أردوغان ذلك مع الأخير في اتصال جرى بينهما مؤخرا. ورغم أن الجانب التركي تحدث عن الزيارة بصيغة “المرتقبة”، بينما وصفها الجانب الروسي بـ”المحتملة” على نحو يؤكد وجود فتور في العلاقات بين الجانبين، فإننا نرجح حصول الزيارة بعد تأجيلها الفترة الماضية، ولعلها تتم أواخر الشهر الجاري أو مطلع الشهر المقبل.
الزيارة التي ستتخللها قمة بين الرئيسين ستتناول -ولا شك- نطاقا واسعا من الملفات المهمة بين البلدين، مثل عودة روسيا لاتفاق تصدير الحبوب والملف السوري بعمومه، بما في ذلك العلاقات بين أنقرة والنظام السوري، والعلاقات الثنائية بما في ذلك الاقتصاد وملف الطاقة، ولكن ما يتعلق بالبحر الأسود سيحظى بترتيب متقدم على جدول أعمال الزيارة ولا شك. وهنا سيعتمد أردوغان على الأوراق التي تملكها بلاده من جهة والعلاقة الشخصية التي تربطه مع بوتين من جهة ثانية لإقناع الرئيس الروسي بالعودة لاتفاق تصدير الحبوب، ليس فقط من الزاوية الاقتصادية والتجارية، ولكن كذلك لتجنب السيناريوهات العسكرية المحتملة في البحر الأسود.
بشكل واضح ومعلن، لا تريد تركيا أي تصعيد في البحر الأسود إذ قد يحوّل ذلك حوضَ البحر لجبهة إضافية للحرب من جهة، ويمكن أن يدفع نحو صدام مباشر بين روسيا والناتو، بما يعرّض أمن تركيا القومي للخطر ويضعها أمام خيارات صعبة، أصعب من التي تواجهها حاليا.
التحدي الأول، في حال وقوع صدام عسكري بين روسيا وحلف الناتو، سيتعلق باستخدام تركيا صلاحياتها بخصوص المضايق وفق اتفاقية مونترو (1936)، لا سيما أنها لم تعد الدولة الوحيدة عضو الحلف المطلة على البحر الأسود كما كانت الحال خلال الحرب الباردة.
This post has already been read 91 times!