• إرساء النظام الجديد أكثر حساسية من القضاء على النظام المتجذر
• الفصائل المسلحة بقاؤها أشتاتاً خطر وتوحدها جميعاً خطر أكبر.. محوها من الخارطة خيراً فيه شر لابد منه
وحدة الدراسات السياسية | لندن
دخلت سوريا مرحلة البناء بعد أن أسدلت السّتار على مرحلة الثورة بسقوط النظام، ولطالما كان التعمير أصعب من التحرير، وإرساء النظام الجديد أكثر حساسية من القضاء على النظام المتجذر، وعند ذاك يمكن الحكم على نجاح الثورة وفق المعيار الثلاثي الذي حدّده ريتشاردز: تحقيق حرية الفرد، وبناء نظام سياسي مرن ومفتوح، وتحسين ظروف حياة الناس، وإن كان الأول يحتاج وقتاً للحكم عليه، والأخير وظيفة الحكومة التي لم تتأسّس ولم تنطلق في أعمالها بعد، فإن الثاني يبدأ منذ اللحظة الأولى لنجاح الثورة في إسقاط النظام القديم من خلال بناء أول مؤسسات الدولة، والبناء مسار طويل وليس عملية مستعجلة، بدأ لحظة هروب رأس النظام ولن ينتهي إلاّ بعد سنين.
من الثامن ديسمبر بدأ تاريخ سوريا المتحرّرة من آل الأسد، والخالية من آثار كل السابقين، من القوّتلي إلى حافظ الأسد مروراً بالزعيم والحنّاوي ذو اليوم الواحد والأتاسي والشيشكلي ذو الفترتين والكزبري والخطيب وغيرهم من العابرين والمؤقّتين حتى نهاية المجرم بشّار الفارّ إلى بلاد الرّوس.
التحديات في المشهد الجديد
كيف تبدو سوريا المنتصرة حديثاً على الدكتاتورية؟ وأيّ تحدّيات تنتظر المعارضة في الداخل والخارج؟
إنّ دولة خرجت للتوّ من مرحلة الاستبداد أو الاحتلال قمنة أن تكون ورشة مفتوحة لكثير من المسائل الكبرى: تحديد شكل الدولة، وطبيعة نظام الحكم، وكتابة الدستور، وبناء المؤسسات التشريعية والقضائية والتنفيذية، وما ينجرّ عن كل قضية من فروع، لكنّ مسيرة البناء عادة تبدأ بتأسيس الجيش بصفته القوة التي أسقطت النظام القديم؛ قبل الاتحاد السوفياتي كان الجيش الأحمر، وقبل الجيش الوطني في الجزائر كان جيش التحرير، وقبل إمارة أفغانستان كان جيش طالبان.. وقبل كلّ نظام جيش يبني أو يهدم، يحرس الحدود أو يحمي الأنظمة، ومن بذرته الأولى يتبيّن الثّمر قبل القطاف.
• بناء الجيش بين مثالية العفو وضرورة المفاصلة
إن بناء المؤسسة العسكرية في مرحلة ما بعد الثورة هو أهمّ منطلق لوضع أسس النظام في كلّ دولة حديثة لأن الجيش عماد كلّ نظام جديد في انتظار إرساء أسس المؤسستين التشريعية والقضائية، وإن كانت الحرب امتدادًا للسياسة فإنّ الجيش أداة تنفيذ لمختلف السياسات مهما كانت طبيعة نظام الحكم في الدولة، وتحييده عن الشأن العام قرار سياسي كما أنّ إدماجه في الدكتاتوريات قرار سياسي أيضًا.
من هذا المنطلق بدأ الحديث مبكّرا عن مستقبل الفصائل المسلّحة في الدولة الجديدة وظهرت على ساحة النقاش أسئلة تخصّ إدماج تلك الفصائل ضمن جيش واحد من عدمها، وعلاقة أفراد الجيش النظامي بالمؤسسة الجديدة، مع مخاوف من إعادة إنتاج الاستبداد والعسكرة تؤزّها التجارب الدموية التي ما فتئت تلقي بظلالها على ذاكرة السوريين.
لقد قادت معركة ردع العدوان فصائل كثيرة اندمجت في سياقات زمنية مختلفة ضمن كيانات تطوّرت بالتدريج لتصبح ما يشبه الهيئة الواحدة ممثلة بإدارة العمليات العسكرية، بالموازاة مع وجود كيان عسكري آخر مثّله الجيش الوطني قاد عملية في مناطق الأكراد أسماها فجر الحرّية، وجسم ثالث انطلق من الجنوب السوري قادمًا من درعا والقنيطرة والسويداء تديره قيادات محلّية وأسماء قليلة الشهرة مشبوهة الانتماء، وهيكل رابع مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالولايات المتحدة الأمريكية تصارع مع الجميع وما زال له وجود في مناطق الأكراد تمثّله قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وخامس أنتجه التحالف الدولي مازال قابعًا في ثكناته ينتظر إشارة للبدء في المهمّة المنتظرة، وكلّ تلك الأطراف أجزاء من الجسم العسكري لسوريا ما بعد الأسد، بقاؤها أشتاتًا خطر وتوحّدها جميعا خطر أكبر، القضاء على تشرذمها مهمّة عسيرة، ودمجها في كيان غير متجانس مسألة خطيرة، بين بعضها من الروابط ما يسهّل توحيدها وبينها وبين بعضها أيضاً ما يجعل محوها من الخارطة خيراً فيه شرّ لابدّ منه.
• ضرورة الوحدة الحذرة
في الدولة الوطنية يشكّل الجيش الموحّد العمود الفقري للدولة، إذ لا جدال في ضرورة بنائه انطلاقا من هيكلية واحدة تعتمد في تقسيمها على مجموعة من العناصر أهمها: التراتبية، والاختصاص، والتقسيم الجغرافي، تنظّم الأولى العلاقات الداخلية بين أفراده تصاعديا من الجندي إلى اللواء أو الفريق حسب التسمية المعتمدة، وتسهّل تقسيم الفرق والأفواج والألوية والكتائب والفصائل وصولًا إلى أصغر الوحدات المكوّنة للمؤسسة العسكرية؛ أي المجنّدين من قوّة الاحتياط.
ويعني التقسيم على أساس الاختصاص تنظيم المؤسسة ضمن مجموعة من القوّات؛ الجوية والبرية والبحرية وما يتفرّع عنها من اختصاصات مثل المدرعات، والمشاة، والدفاع الجوّي، والقوات الخاصة، وغيرها من الأفرع التي لا يمكن إحصاؤها عند دراسة الجيوش بالنظر إلى مرونة تلك التقسيمات واختلافها من دولة إلى أخرى وتحوّلها حتى في الدولة الواحدة تماشيا مع برامج إعادة التنظيم والهيكلة وما سواها من عناوين.
أمّا التقسيم الجغرافي فيرتبط بالنطاق الجغرافي لكلّ دولة، وهو كغيره من المعايير ليس ثابتا، يتغيّر حسب موقع كلّ دولة وعقيدتها العسكرية وقدراتها وأهدافها. ويضيف بعض المختصين في الدراسات العسكرية والأمنية أجهزة الأمن مثل المخابرات بتفرّعاتها والشرطة والدرك الوطني إلى كيان المؤسسة العسكرية، فيما يفصل آخرون بين المؤسستين العسكرية والأمنية انطلاقا من مقاربات ونظريات ليس مجال بسطها الآن.
بعيدا عن تلك المعايير، تأخذ مسألة الاختلافات الإيديولوجية والانتماء المناطقي والطبيعة الميليشاوية والعلاقات مع الأطراف الأجنبية حيّزا مهمّا في تعريف الفصائل السورية لنفسها وصورتها لدى الرأي العام، حيث نجد أنّ فصائل إدارة العمليات العسكرية تنتمي في أغلبها إلى التيار الإسلامي عدا جيش العزّة الذي يبدو أكثر ميلاً إلى التيار المحافظ منه إلى الإيديولوجية الإسلامية، وهذه الفصائل تعتبر الأكثر انسجاماً واتّساقا فيما بينها وهي قريبة من تحقيق الوحدة والذوبان في هيكل واحد أكثر من غيرها.
في حين تشكّل فصائل الجيش الوطني سديما متنافراً من الفصائل ذات التكوين العشائري والمناطقي بدرجة أولى، مع عقلية متفلّتة تميل إلى العشوائية والتسيّب أكثر ممّا تميل إلى الانضباط والتقاليد العسكرية الصارمة على الرغم من المحاولات التركية لتنظيمها ضمن جيش واحد منذ ما يقارب 7 سنوات، عجزت فيها -أو لم ترد- تركيا والقيادات المنشقّة عن جيش النظام السابق عن تكريس المؤسسية والقضاء على الطابع الميليشاوي والنزعة العشائرية وغلبة الانتماء المناطقي، ممّا يجعل من توحيدها مع بعضها كما مع غيرها مسألة شديدة الحساسية في الوقت الرّاهن خاصة في ظلّ ارتباطها الشديد بالجيش التركي، وتعوّد بعض قياداتها على الزبائنية والتبعية للداعمين، وتماهيها مع الأولويات الأمنية للجيش التركي إلى حدّ فقدان الشخصية العسكرية المستقلة بصورة كاملة، وتحوّل بعضها إلى ما يشبه الشركات الأمنية التي تشتغل تحت الطلب بغضّ النظر عن هوية الجهة المخدومة.
أمّا القادمون من درعا فهم أشتات من الفصائل والقيادات ذات الخلفيات العشائرية التي تحتاج إلى بعض التفصيل لفهم علاقاتها المتشعبة باللاعبين الإقليميين في المنطقة؛ فدرعا التي يلقبها الثوار بمهد الثورة حملت في بطنها الثوري جنينا مشوّها كبر واستوى وها هو يوشك أن يضع العصا في عجلة سوريا ما بعد الأسد، ذلك الجنين هو ما يسمّى “غرفة عمليات الجنوب” التي انبثقت عنها “غرفة عمليات فتح دمشق” التي تلت البيان رقم 1 معلنة نهاية حكم الأسد، وتلك الغرفة التي انطلقت من درعا وسارعت بناء على نيّة مبيّتة إلى دمشق قبل وصول إدارة العمليات العسكرية القادمة من الشمال تشكّل أهمّ الفصائل المسلحة ذات العلاقات الوطيدة بمخابرات إحدى الدول العربية والمخابرات الأمريكية (ومن ورائها الصهيونية)، كما أنّها تحتفظ بعلاقات جيّدة مع روسيا منذ اتفاق التسوية عام 2018، وهو اتفاق غير معلن بين إحدى الدول العربية والكيان الصهيوني والولايات المتحدة وروسيا، يقرّ بسيطرة نظام الأسد على محافظة درعا، مقابل ضمانات روسية يتم بموجبها ابتعاد إيران والمليشيات المدعومة منها عن الحدود مع الأردن والجولان المحتل حفاظا على أمن الكيان الصهيوني الذي صرّح في ذلك الوقت بأنّها تفضل سيطرة قوات الأسد في درعا على الميليشيات الإيرانية وكذلك الفصائل المعارضة.
المثير في الموضوع أن القيادات الحالية لإدارة عمليات الجنوب انخرطت بعد اتفاق التسوية في اللواء الثامن تحت إدارة نظام الأسد نظرياً والقوات الروسية ميدانياً بدعوى أنّ مواجهة روسيا “غير مجدية” كما يقول أحمد العودة؛ “الثوري المستجدّ” المتنقّل من أحضان غرفة “الموك” بإدارة أمريكا ومخابرات دولة عربية إلى أحضان الأسد وبوتين، واليوم يعود مثل حصان طروادة ليعلن نفسه ثورياً عتيداً يفتح دمشق على حين فترة من التفاهمات والتسويات مع كلّ الأطراف باستثناء الثوّار الذين اضطرّوا بموجب الاتفاق المذكور إلى النّزوح نحو الشمال، ومن بقي أصابه رصاص التصفية أو اختفى في دهاليز السجون بموافقة تامّة من العودة ورفاقه في تكتيكه”.
للإشارة إنّ أحمد العودة وأمثاله عند أهل الثورة النّبهاء “حفتر” صغير أو “حميدتي” منتظر، يحمل تاريخه ما يؤكّد أنّه ومقاتلوه -عدا من صدق- طابور خامس، إذا اندمج في الجيش الجديد فتّته من الداخل ذات يوم، وإن ظلّ خارجه يوشك أن يصنع لنفسه كتيبة من “الدعم السريع” في نسخة سوريا سترعاها لا محالة إحدى الدول العربية وفق نهجها حين تصنع من أمثال العودة خميرة الثورة المضادّة في كلّ البلدان العربية، بدعم مخابراتها للعودة وأمثاله في منطقة حوران منذ أيّام غرفة العمليات المشتركة “الموك”.
في الجانب المقابل، تنشط قوات سوريا الديمقراطية بشكل مستقل عن باقي الفصائل المعارضة، وهي تشكيل معاد لوحدة الدولة السورية من الأساس، وتأتمر بأوامر أمريكا مباشرة ولا يمكن الحدّ من تأثيرها إلا بطريقتين؛ إمّا المواجهة المباشرة وسحقها بالتعاون مع الجيش التركي الذي يسعى لتدميرها كي لا تكون قاعدة خلفية لدعم حزب العمال الكردستاني “بي كا كا” لكنّه يتخوّف من رد الفعل الأمريكي، أو بالتفاهم مع الأمريكيين مباشرة لحلّ التنظيم، وسيكون المقابل باهظا والمساومات كبيرة، تتعلّق معظمها بالتمكين للأقليات الدرزية والمسيحية والعلوية بالإضافة إلى أخذ ضمانات بحماية أمن الكيان الصهيوني وعدم التعرّض لجيشه في الجولان والمناطق التي احتلّها في الأيام الماضية على مقربة من القنيطرة ودرعا.
بالإضافة إلى قوات سوريا الديمقراطية وجماعة أحمد العودة، تملك الولايات المتحدة الأمريكية ذراعًا عسكرية ثالثة ما زالت تحتفظ بها كورقة رابحة يمكن أن تدخلها إلى حلبة الصّراع في الوقت الذي تشاء، ليكتمل مثلّت الطابور الخامس الجاهز لاختراق جيش سوريا ما بعد الأسد، فجيش سوريا الحرّة وهو الاسم الجديد لجيش مغاوير الثورة (تأسس في 2015) بقيادة النقيب فريد القاسم وقبله العميد مهند الطلاع منتوج أمريكي محض، يتهم بأنه لا يحمل ضمن عقيدته الهجينة غير الولاء لمن أنشأه ودرّبه في قاعدة التنف الأمريكية على المثلث الحدودي بين سوريا والعراق والأردن في منطقة تدمر، وقد أسّس هذا الجيش التحالف الدولي لمحاربة (داعش)، وحين انتهى التنظيم احتفظت به أمريكا ليكون طليعتها العسكرية في مرحلة ما بعد الأسد تستعمله حين تشاء بالموازاة مع بيادقها الأخرى في الأجسام العسكرية والسياسية المعارضة.
آليات ومقترحات بناء الجيش الجديد
السؤال الأهم: كيف يجب أن يبنى الجيش الجديد وما مصير كل هذه الكيانات العسكرية؟
•• التشتيت والمفاصلة
إذا أرادت غرفة العمليات العسكرية تأسيس جيش سوري موحّد خال من الأجسام الغريبة سيكون عليها أخذ بعين الاعتبار مجموعة من المعايير للتّحايل على الكيانات المعادية ورعاتها ومن ثمّة قطع أذرعهم، بعضها سياسي وآخر هيكلي، يمكننا تلخيصها في الآتي:
• السحق أو الإضعاف
بالنسبة لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) تحتاج إدارة العمليات العسكرية إلى كثير من المرونة في التعامل معها، فهي من ناحية تحتاج إلى الجهد التّركي لسحق التنظيم عسكرياً إن استطاعت إقناع الأتراك بالتفلّت من مخاوفهم تجاه الأمريكيين حفاظاً على أمنهم القومي، وتحتاج إلى التفاوض مع الراعي الرسمي الأمريكي لإنهاء نفوذ التنظيم على الأقل في المناطق العربية بالموازاة مع تحريض الأهالي والعشائر على الثورة ضد (قسد) لطردها وإضعافها ريثما يحين الوقت للقضاء عليها قضاء مبرماً، وهو الخيار الأقرب إلى التطبيق والأكثر أمانًا لأنّ الاعتماد على الأتراك في هذا الخصوص غير آمن بسبب تشابك العلاقات بين تركيا وهي عضو في الناتو وأمريكا التي تعتبر المنظمات الكردية إحدى أدواتها المهمة لتنفيذ سياساتها في الشرق الأوسط، وبالنظر إلى السوابق التي تثبت أنّ الأتراك لا يذهبون بعيدا في مواجهة أمريكا خارج حدودهم، لذلك ينبغي على إدارة العمليات العسكرية تضييق الخناق على (قسد) ودحرها من المناطق العربية بالموازاة مع التفاوض معها ومع الأمريكيين لربح الوقت تحقيقا للهدف على مرحلتين؛ الإضعاف والمحاصرة، ثمّ السّحق أو نزع السلاح.
وبالمحصّلة، لا يمكن التفاهم مع (قسد) مادامت تحت المظلة الأمريكية لا على المدى القريب والبعيد لأنّها تنظيم عقدي يحمل إيديولوجية معادية للعرب من جهة، ولأنّه هيكل وظيفي لا يملك قراره من جهة ثانية، لهذا السبب ينبغي أن يكون الهدف الرئيسي هو التخلص من التنظيم نهائياً على المستوى الاستراتيجي حتى لا يكون عامل هدم وتفتيت للوحدة الترابية للدولة في المستقبل، لكن لا بأس ببعض المراوغات والتفاهمات معه في البداية على ألا يتحوّل ذلك إلى استراتيجية وتهاون على المدى البعيد.
• التشتيت
استراتيجية ناجحة للتعامل مع الفصائل ذات البناء العشائري والمناطقي، تحتاج فقط إلى عمل دقيق على مستوى هيكلة الجيش وفروعه واختصاصاته وقوانينه التنظيمية بما يضمن تفريق الفصائل ذات الطابع الميليشاوي وفكّ ارتباط القيادات فيما بينها من خلال توزيع الكتائب والوحدات العسكرية على مختلف القوات، ونشرها في مناطق متباعدة، وتوزيع الرّتب على أسس تركّز على الكفاءة العلمية لإزاحة القيادات عديمة المستوى الدراسي –وهي كثيرة- من مراكز القيادة ومنح بعضها مسؤوليات سياسية تتعارض مع العمل العسكري، كأن يعطى قائد فيلق مثلا إدارة محافظة أو مديرية مدنية تشغله عن الاهتمام بالعمل في الجيش، وإرسال قيادات أخرى في بعثات تكوين أو مكاتب أمنية في السفارات في الخارج، وغيرها من أساليب التشتيت الذكيّة تفادياً لتشكّل كتل عسكرية يمكن أن تشقّ صف الجيش أو تقود انقلابات عسكرية في المستقبل.
هذه الاستراتيجية تصلح مع التنظيمات المنضوية تحت لواء الجيش الوطني بشكل خاص وبعض قيادات غرفة عمليات الجنوب، وحتّى جيش سوريا الحرّة إذا اضطرّت الحكومة الجديدة إلى القبول بانخراطهم في الجيش الجديد تحت إكراهات الواقع وضغوطه، مع أخذ بعين الاعتبار أنّ تحييدهم أوجب من وضع الثعابين في عبّ الثورة.
• المفاصلة
لا ريب في أنّ بقايا الجيش النظامي باستثناء المجنّدين في الخدمة الإلزامية مسؤولون عن حرب الإبادة التي شنّها النظام السابق على شعبه مدة 13 سنة، بل أكثر من ذلك بالنسبة للضباط القدامى، وهؤلاء ينبغي أن يكونوا عرضة للمحاكمة والمحاسبة على ما ارتكبوه من جرائم، ولا يجوز بحال أن تستسلم القيادة الجديدة إلى مطالب العفو والتسامح التي يفضّل أنصار الثورة المضادة ترديدها عند انتصار الثورات على النظم المستبدّة، فالعفو عن هؤلاء ولو بدا للسذّج من الناس عفوا عند المقدرة هو خيانة لدماء الضحايا ابتداء، وقبر يحفره الثوّار لأنفسهم انتهاء، لذلك وجب التركيز على هذه المسألة كي لا تسارع الثورة إلى أكل أبنائها ومكافأة جلاّديهم كما حصل في أقطار عربية كثيرة غلبت على قياداتها السذاجة والجهل بالتاريخ وطباع البشر.
ويقتضي العدل القصاص من كلّ ضباط الجيش والمخابرات وحرس السجون والأجهزة الأمنية بشتّى فروعها، على ألاّ يطال الجنود الذين لم يتورّطوا في أعمال إجرامية كي لا يتحوّل إلى انتقام وتصفية حسابات سرعان ما توقد النزعة العشائرية لدى الأهالي وتقوّض الأمن العام في مجتمع يتنفس أولى نسائم الحرّية.
أمّا الجيش الجديد فينبغي ألاّ يقبل في صفوفه فردا واحدا من جنود النظام السابق مهما كانت الرتبة والاختصاص كي لا تتكرّر تجربة الجيش الجزائري مع الضباط الفارين من الجيش الفرنسي الذين انخرطوا في جيش التحرير وتمّ دمجهم بمبرّر الكفاءة فكانوا سرطاناً نخر جسد الدولة لاحقا منذ انقلاب 1965 الذي كانوا من أبرز قياداته الميدانية في العاصمة، ليصبحوا شيئا فشيئا أصحاب القرار ويقودون انقلاب 1992 ثم يحكمون القبضة على كل مفاصل السلطة، ومازالت آثار فعلهم الشنيع مستمرة إلى اليوم.
إن تلك التجربة المريرة حريّ بالقادة الجدد في سوريا دراستها بعناية لأخذ العبرة والاستفادة من الدرس القاسي كي لا يصبح ثوّار آخر طلقة، والتائبون الجدد حكّاما في سوريا المستقبل، لأن من يترك الصغير حتى يكبر والخفيّ حتّى يظهر ويؤجّل فعل اليوم إلى الغد سيكون مصيره كمصير الخليفة ابن مروان، ومن لم يتّعظ بتاريخ بني أميّة لا يستحقّ السلطنة في عاصمتهم.
والأمر أمر الجيش والمخابرات لا أمر الحكومة وفق منظور الواقعية السياسية الداخلية في أي دولة.
This post has already been read 60 times!