يحمل الأولمبياد الرياضي فرصة هامة لبعث رسائل خاصة من قبل الدولة المستضيفة والجهات المنظمة، كونه التجمع العالمي الأبرز لغالبية رياضيي العالم، إذا ما استثنينا كأس العالم.
أولمبياد باريس 2024
انطلقت مساء الجمعة 26 يوليو، مراسم حفل افتتاح دورة الألعاب الأولمبية 2024 في العاصمة الفرنسية باريس في نسختها الـ 33 باحتفالات ضخمة وهتافات صاخبة، رغم هطول الأمطار الغزيرة.
وشارك أكثر من 6000 رياضي من حوالي 205 دول في حفل الافتتاح الذي أثار جدلًا بين الإشادة والانتقادات، وأبحر رياضيون على طول نهر السين على متن أكثر من 80 قارباً على مسافة 6 كيلومترات من جسر أوسترليتز إلى تروكادرو مع حدائقه ومتاحفه.
كواليس انعقاد الأولمبياد
تعيش فرنسا إشكاليات خاصة عبر الصراع بين اليسار واليمين وصعود الفكر اليميني المتطرف في انتخابات الجمهورية الفرنسية.
وسيطرت على دورة الألعاب الأولمبية العديد من القضايا والأحداث التي عصفت بالاستعدادات في فرنسا. ففي الأيام التي سبقت أولمبياد باريس 2024، واجهت شبكة السكك الحديدية الفرنسية سلسلة من “الأعمال التخريبية” خاصة الجمعة -يوم الافتتاح- استهدفت تعطيل خدمات السكك الحديدية في البلاد.
محاولات التخريب المذكورة هددت بالتسبب في فوضى في السفر لمئات الآلاف من الأشخاص يوم الجمعة، خاصة بالمناطق الشمالية والجنوبية الغربية والشرقية من العاصمة وتمكن عمال السكك الحديدية من إحباط معظم المحاولات.
رسائل خاصة في الأولمبياد
يفترض لدى الجميع أن الصورة الذهنية المفترضة للألعاب الأولمبية أنها حدث غير مسيس يشجع على السلام العالمي، في وقت يعيش فيه العالم على توترات غير مسبوقة تهدد باندلاع حروب كبرى.
سعت فرنسا عبر الأولمبياد إلى إظهار الضخامة والعظمة والإبهار كرسالة عن قوة الدولة المنظمة، في مشهد افتتاحي لعصر جديد، تركز فيه على رسائل خاصة تم بعثها في الافتتاح.
وبعد الافتتاح، تعرض حفل افتتاح الألعاب الأولمبية في باريس لانتقادات شديدة من قبل الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا. كذلك انتقده سياسيون محافظون وآخرون يمينيون متطرفون في فرنسا وأوروبا.
مرد ذلك كله إلى مشاهد استهزاء وسخرية من المسيحية. حيث نقل الافتتاح مقطعًا أعاد فيه رجال يعرفون باسم “دراغ كوين”، وهم غالباً من المثليين يرتدون أزياء نساء ممن يعرفون باسم “دراغ كوين” ومغني شبه عارٍ إنشاء لوحة ليوناردو دافنشي الشهيرة “العشاء الأخير”، والتي تصور آخر ما شاركه السيد المسيح مع تلاميذه.
كما ركزت عروض الافتتاح على مظاهر دعم الشذوذ والمثلية الجنسية في مشهد مخزي سبب بلبلة عالمية، لكنها تصرفات فرنسية مقصودة.
وأثارت فرنسا جدلًا واسعًا بفرض مبدأ “العلمانية”، على لاعباتها اللاتي يرتدين الحجاب، إذ قررت منعهن من ارتدائه خلال المشاركة في دورة الألعاب الأولمبية، وهو ما يتعارض مع لوائح اللجنة الأولمبية الدولية، التي تسمح للرياضيين بارتداء الملابس الدينية، بما في ذلك الحجاب.
اعتراضات وانتقادات
جاء في بيان صادر عن مؤتمر الأساقفة الفرنسيين: “تضمن هذا الاحتفال (افتتاح الأولمبياد) للأسف مشاهد استهزاء وسخرية من المسيحية، وهو ما نأسف له بشدة”. ولم تقدم الكنيسة تفاصيل محددة، ولكن مشهد العشاء الأخير على وجه الخصوص أثار غضب بعض المسيحيين.
وحرى انتقاد مشهد “العشاء الأخير” من حفل الافتتاح ليلة الجمعة من قبل السياسيين المحافظين واليمينيين المتطرفين في فرنسا. ووصفت فاليري بوير، عضو مجلس الشيوخ عن الجمهوريين المحافظين، ذلك بأنه “رؤية لتاريخنا… التي تهدف إلى السخرية من المسيحيين”.
أما رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان فأظهر هجوماً لاذعاً جديداً انتقد فيه ما وصفه بـ”ضعف الغرب وتفككه”، وهو ما تجلى برأيه في حفل افتتاح الأولمبياد.
حيث رأى الزعيم المحافظ المتشدد أن الحفل الذي أقيم الجمعة على نهر السين، وهدف إلى إظهار التنوع في فرنسا تجسيد “للخواء” الأخلاقي في الغرب. وفي حين ضم حفل الافتتاح مشاركة متحولين جنسياً، في مشهد تمثيلي فسره البعض على أنه محاكاة ساخرة للعشاء الأخير للمسيح.
وقال أوربان “إنهم يتخلون تدريجياً عن الروابط الروحية والفكرية مع الخالق والوطن والأسرة. مما أدى إلى تدهور القيم الأخلاقية العامة في المجتمع، كما رأيتم إذا شاهدتم حفل افتتاح الأولمبياد أمس”.
تحذيرات تسييس الأولمبياد
أكدت صحيفة “وول ستريت جورنال”، أن المسؤولين الرياضيين سيراقبون عن كثب، وبشكل أكثر من المعتاد، جميع الرياضيين الذين سيصعدون إلى منصات التتويج في دورة الألعاب الأولمبية، بحثاً عن أي علامة على وجود رسائل سياسية.
حيث يتوقع أن يعمد رياضيون للتعبير عن آرائهم حول مواضيع مختلفة، من أبرزها الحرب في غزة وأوكرانيا، وكذلك السماح لرياضيين روس المشاركة في المنافسات وكذلك تورط سباحين صينيين في فضيحة منشطات مزعومة.
لذلك تم الطلب من جميع الرياضيين المشاركين في الأولمبياد الاحتفاظ بآرائهم، لأن قواعد اللجنة الأولمبية الدولية تحظر عليهم الاحتجاج في ميدان اللعب أو على منصات التتويج.
وللتذكير وبموجب قواعد اللجنة الأولمبية الدولية، يُسمح للرياضيين الأولمبيين بالتعبير عن أنفسهم على وسائل التواصل الاجتماعي، أو في المقابلات، أو في المدينة المضيفة خارج الملاعب الأولمبية أو قرية الرياضيين. لكن في ميدان اللعب أو منصات التتويج “لا يُسمح بأي نوع من المظاهرات أو الدعاية السياسية أو الدينية أو العنصرية”، وفقًا للقاعدة 50 من الميثاق الأولمبي.
محركات ودوافع التصرف الفرنسي
عكس حفل الافتتاح أزمة أخلاقية تمر بها المجتمعات الغربية، ويعكس أيضاً صراعات ثقافية بين القيم التقليدية والقيم الحديثة التي تؤيدها بعض الفئات الليبرالية، ودور فرنسا في ترويج القيم غير المحافظة قديم منذ أيام الثورة الفرنسية وتجسيد الجمهورية الفرنسية للعلمانية المتوحشة.
لم تقتصر الاعتراضات فقط على المشاهد الدينية، بل امتدت أيضاً إلى القضايا الأخرى كالترويج للشذوذ الجنسي والاحتجاج على التعدي على القيم التقليدية والأخلاقية.
ويمكن استنتاج أن استماتة الغرب وباريس تحديدًا، في شرعنة ودعم وإبراز وترسيخ الشذوذ الجنسي وتسويقه للعالم والسعي لفرضه على الشعوب والمجتمعات استماتة عجيبة، لها أهداف وغايات مخيفة لا تقل في خطرها ومآسيها عن أهداف وغايات الحروب المدمرة على الشعوب لإخضاعها واستعبادها ونهب خيراتها وثرواتها بحسب تقاطعات التاريخ والمعطيات الاجتماعية.
سوابق تاريخية
إن استغلال حدث الأولمبياد لإيصال رسائل سياسية خاصة، لم يكن وليد التجربة الفرنسية، وأشهر مثال على ذلك الدورة الأولمبية الـ 11 وهي الدورة التي شكلت نقطة انعطاف تاريخي جعلت ما بعدها من دورات أولمبية غير ما قبلها، وهي التي نظمتها ألمانيا النازية عام 1936 في برلين، وركز فيها هتلر على إثارة دهشة العالم لتأكيد سطوة ألمانيا وقوتها. فكانت هي الدورة الأميز في تاريخ الأولمبياد.
حينها تجلت ازدواجية المعايير لدى اللجان التنظيمية والفكر الغربي، حيث ومع وصول هتلر وحزبه النازي للسلطة، وعدائه المعلن مع اليهود، حاول منظمو الأولمبياد سحب الاستضافة من برلين.
خلاصة القول، أضاعت فرنسا بتصرفها واستهتارها بتوجهات شعوب العالم فرصة تاريخية في الوقت الذي يحتاج فيه العالم للتنافس الشريف ونشر رسالة سلام في العالم أجمع، وسط صراعات سياسية كبيرة وحروب واضطرابات تشهدها مناطق متفرقة من العالم، وبدل التركيز على المشترك بين البشر، تمت إثارة مواضيع جدلية ليست ذات قيمة في الوقت والمغزى، وما أثبتته فرنسا ببساطة أنها سيست الرياضة على عكس ما يوهمونا به.
This post has already been read 98 times!