في أحد الأيام صديق لي مرض ابنه، فطلب مشورة البعض أين يذهب (هو يريد الأفضل) فقام أحدهم ونصحه بسماع مقطع لفلان فهو متفنن في مثل هذه الأوجاع، وذلك المتفنن تخصصه في الأدب، ثم قام يبحث له عن مقاطع يتحدث بها بأسلوب جاذب عن مرض الزهامير ومقطع اخر عن السمنة، وأنا أتعجب وازداد تعجباً، كيف لأبو المريض أن يتفاعل ويندمج مع هذا الاقتراح، إلى أن قاطعتهم قائلاً ابنك يشتكي من صعوبة فهم في إتقان العروض؟ أو يلحن بحديثه وكتابته؟ فقال أتمازحني؟ فقلت شر البلية ما يضحك، المريض يحتاج لطبيب لا أديب.
هذه الحادثة هي فرع صغير من مصائب ثقافية كبرى ابتلينا بها في واقعنا الآن، ولست محيط بغالبها، بل يعنيني منها -وبحكم التخصص- ما له علاقة في التاريخ، ظهر وما زال يظهر ويطفو بعض الأشخاص الذين لا علاقة لهم في علم التاريخ ولا الثقافة بمعناها المتواضع في زماننا، ويطلقون الأحكام على حوادث مر عليها مئات السنين دون قواعد علمية، فقط من قبيل الخبط والهبد، فتراه يبحث عن الشاذ من الآراء والروايات فيجعله أصل ويدافع عنه بصوت عال وتخبط مزعج، واستخدام ألفاظ الجرح والتعديل وكأنه ابن معين أو ابن أبي حاتم أو حتى زميل للذهبي وابن حجر! فتجد جرأة لم تراها من قبل، والجرأة أتت بأشكال منها التعدي على أشخاص لا يقدح بهم إلا مناهض أو عدو وكلا ذلك شهادة زور، وأحد الأشكال استعمال ألفاظ ومصطلحات معاصرة لا تصلح بأن تصف أحوال الأشخاص بالأزمنة السابقة، إلا إن كان من باب التقريب، لا باب الحكم والوصف.
لذلك فالببغاء ليس مطرب وليس شاعر ولا حتى قارئ إذا كرر كلام من يسمعه، لكن الخطر هو أن يكرر أحدهم بل ويصرّح بما يقرأه ويسمعه دون وعي ولا إدراك ولا حتى فهم، وهذا ما جعل البعض يتحدث بالطب وينظر له وبه وهو بعيد تمام عن الطب، فتجلس مع أحدهم فيشخص حالتك ويقترح عليك أدوية معينة، بناء على جهل مركب، وادّعاء ثقافة طبية، والعجب كل العجب أن هذا الببغاء ليس مقلد وحسب بل أصبح يصدر أحكام ويقاتل دونها، وكأنه صاحب رأي معتبر بل وحتى غير معتبر، وهذا من جهالته، وأسهل طرق هذا الانتشار هو التحدث بالعامية ووضع أمثلة لحكّام وملوك معاصرين كي يُحصن رأيه أمنياً، ويحرج المتلقي من وراء الشاشات.
الحصول على شهادة جامعية في التاريخ وغيره من العلوم، لا يعني أن حاملها مؤهل للحديث والحكم بكل شيء، بل لابد من تطبيق ما تعلمه بشكل علمي، وفق قواعد معينة ومناهج معروفة، وغير ذلك خنفشارية باسم التخصص.
ما بعد النقطة:
عندما ترى أحدهم يتجرأ في الخوض بعلم التاريخ هو فقط حكواتي قرأ كتب لا تعد من مصادر التاريخ، ثم تراه ينظر ويطلق الأحكام بأسلوب مبتذل لا احترام ولا انصاف، وغالب استشهادات بأسماء غربية -يتعمد ذلك كي يتظاهر أمامك بأنه قارئ ومطلع- ويترك كتب التراث بحجة أنها غير منصفة، والحقيقة أن لم يحاول قراءتها ولا يستطيع استيعابه أو فهم ألفاظها.
This post has already been read 272 times!