عندما تأسّست إسرائيل بشكل رسميّ على الأراضي الفلسطينيّة العربيّة مع عام ١٩٤٨، كانت المشكلة الأبرز التي تواجه احتلالاً عاتياً من هذا النوع هي مشكلة الاعتراف الرمزيّ بها كدولة ذات سيادة في الوسط العالميّ والعربيّ. بالإضافة إلى القوّة الماديّة التي استخدمها الاحتلال الصهيونيّ الاستيطانيّ في فلسطين، استخدمَ الاحتلال أدواته لفرض قوّة رمزيّة للاعتراف به؛ الأمر الذي احتاج إلى عقود حتى يحصل نوعاً من التفاوض عليه.
عربيّاً، كانت الدول العربيّة الخارجة من حظيرة الاستعمار حديثاً، كمصر بعد ثورة ١٩٥٢ التي قادها ‘‘ الضبّاط الأحرار‘‘، تعتبرُ أنّ الخلاص من الاستعمار جزءٌ لا يتجزأ من عمليّة تحرير الوطن العربيّ. لكن ليس الاستعمار الإنجليزيّ أو الفرنسيّ فحسب، وإنّما أيضاً الاستعمار الإسرائيليّ في فلسطين. كانت الرؤية العربيّة حينها، القوميّة إلى حدّ بعيد، ترى أن نهضة البلدان الخارجة من الاستعمار مشروطة بإخراج إسرائيل واسترداد الأراضي الفلسطينيّة كلها من الاحتلال الصهيونيّ.
ومع الحروب العديدة التي خاضها النظامُ المصريّ مع الاحتلال، والإخفاق فيها، وسقوط أجزاء من سيناء والجولان السوريّة، عملَ النظام الساداتيّ الذي جاء بعد الإرث الناصريّ على التطبيع مع النظام الإسرائيليّ بعد حرب ١٩٧٣. اكتملت أعلى مراحل هذا التطبيع في اتفاقيّة كامب ديفيد عام ١٩٧٨؛ تلك الاتفاقيّة التي عزلت مصر بشكل كبير عن محيطها العربيّ الرافض للتطبيع حينها، وانفرجت تلك العزلة مع مجيء النظام المُباركيّ الذي سرعان مع أرسلَ، عشيّة تولي محمد حسني مبارك رئيساً للجمهوريّة، مبعوثاً إلى سوريا حافظ الأسد، وإلى أردن الملك حسين.
كانت كامب ديفيد بمثابة الاستسلام العربيّ الماديّ لقوى الطغيان الإسرائيليّ، وهو الأمر الذي جُوبه بشدّة من قبل تيارات عديدة، إسلاميّة وعلمانيّة وقوميّة، واعتُبر السادات رئيس اتفاقيّة العار الذي تواطأ فيها مع الإمبرياليّة الأمريكيّة لإرضاء الطرف الإسرائيليّ الاحتلاليّ.
مثّلت كامب ديفيد طريقاً لما يمكن تسميته بـ‘‘التطبيع العربيّ‘‘ الرسميّ مع النظام الإسرائيليّ. فسنجد مع عام ١٩٩١ في مؤتمر مدريد الذي عُدَّ خطوة على هذه الطريق التطبيعيّة. وبعد ذلك في عام ١٩٩٣، سيحدث ما مثّل شللاً في إمكانيّة المقاومة، ألا وهو اتفاق أوسلو بين عرفات والاحتلال الإسرائيليّ، واتفاق وادي عربة في الأردن بعده بعام تقريباً.
بالنسبة إلى الشارع العربيّ، لم يكن هذا الأمر مؤثراً اللهم إلّا على مستوى تزايد الرفض لإسرائيل وللأنظمة ‘‘المتواطئة‘‘ مع المشروع الإسرائيليّ. فقد استمرّت الاحتجاجات في العواصم العربيّة رفضاً للكيان الصهيونيّ على مدار سنوات طويلة.
لكن الرئيس المصري أنور السادات قد غيّر المعادلة على نحو سياسيّ وثقافيّ بشكل مخيف. ففي الخمسينيّات والستينيّات، كانت فلسطين بالنسبة إلى الناس العاديين في الشوارع، وللمثقفين والطلبة ورجال السياسة هي الوجهة العربيّة الأولى التي لا يمكن تنمية بلدان العرب سوى بتحريرها. وكانت الثقافةُ العامّة، وما يُذاع للناس، يؤكّد على هذا الحضور المقاوم، وعلى تنمية الحساسيات الرافضة للكيان الإسرائيليّ. بيد أنّ مع التطبيع الساداتيّ، سيتمّ خلق نخبة جديدة يمينيّة، ستقوم بعزل الثقافة عن السياسية باسم الواقعية، وسيتمّ تدجين الوعي العامّ بخصوص فلسطين باعتبار أنّ النظام المصريّ قد فعلَ كلّ ما بوسعه، وأنّ تحرير فلسطين هو مسألة خاصّة بـ‘‘الفلسطينيين‘‘.
من هذا التاريخ السريع الذي سردتُه أعلاه، ستنشأ طبقة مثقفين جُدد متصالحين مع إسرائيل، وسينشرون ما يمكن تسميته بـ‘‘ثقافة التقوقع‘‘ على الذات والانكفاء، دون الالتفات للمسألة الفلسطينيّة، التي ستغدو، كما سنرى، مسألة هامشيّة، وانتهاج سياسات جديدة تقتضي، قولاً وفعلاً، الانكفاء على الشأن الداخليّ، ونسيان فلسطين.
لقد أصبح هناك نوعاً مما سمّاه الأكاديميّ الفلسطينيّ الأصل جوزيف مسعد بـ‘‘عزل الفلسطينيين‘‘، الذي مرّ عبر مراحل عديدة سياسيّة وثقافيّة، وانتُهجت سياسات إقصاء في دول عربيّة ضدّ الفلسطينيين المُعرَّفين كغرباء، وكبائعي أرضهم -كما روّجت ذلك وسائل الإعلام المُباركيّة والسيسويّة.
ثقافة تطبيع جديدة
مع تطور الوضع العربيّ، والاستلام العربيّ شبه الكامل للدولة الصهيونيّة، وتراجع الأدبيات التي تذكّر بالقضيّة الفلسطينيّة، وتبني الأيديولوجيا الأمريكيّة الجديدة القائمة على عقيدة السلام والاستقرار، تشكّلت مع الوقت إنتلجانسيا تكنوقراطيّة، تؤمن بأنّ الانخراط في المشروع الأمريكيّ في المنطقة هو ‘‘الحل الأمثل‘‘ وأنّ الاعتراف بدولة إسرائيل وبقاء الوضع ‘‘على ما هو عليه‘‘ هو الطريق الصحيح لتنمية الاقتصادات المحليّة المنحدرة، والصعود بدول نيوليبراليّة جديدة منكفئة على ذاتها.
ورغم أنّنا رأينا الأعلام الفلسطينيّة تُرفع في ميدان التحرير مع الهبّة الشعبيّة الثوريّة في يناير ٢٠١١، والتظاهر عند السفارة الإسرائيليّة؛ الأمر الذي أشار، فيما يشيرُ إليه، إلى ارتباط القوّة الثوريّة في الداخل بالتحرّر من إسرائيل؛ أو، بلغةٍ أخرى، أنّ تلك الأنظمة الغاشمة تدعمها القوى الإمبرياليّة الأمريكيّة والصهيونيّة بسبب الصدقات الحميمة التي أقامها النظام المصريّ معها في صفقات الغاز، وفي بناء السد، وغلق الأنفاق، والعنصريّة الإعلاميّة المُمارَسة ضدّ الفلسطينيين، سواء في بلدانهم أو المقيمين في مصر مثلاً، أقول رغم ذلك، إلّا أنّ الطبقة المثقفة الساعية دوماً للتطبيع مع إسرائيل كانت تحاول أن تفرض أجندتها الليبراليّة المُطبّعة، عبر القنوات والصحف والكتب.
سأحاول أن أوصف ظاهرة في الواقع العربيّ، تمتد من مصر إلى الخليج، يمكن تسميتها بـ‘‘الواقعيّة المُطبِّعة‘‘ التي يرمي مثقفون عرب ليبراليّون إلى نشرها وبثّها. فقد رأينا أنّ الحجة التطبيعيّة الجديدة ليست سراً، بل علانيّة. فتجدُ مثقفين عرب ليبراليين ينشرون، بكل تفاؤل تطبيعيّ، في الصحف العربيّة، سواء مدعومة مصرياً أو سعوديّاً كصحيفة الشرق الأوسط والحياة وغيرها، يقولون إنّ إسرائيل ليست عدواً، ويؤمنون بالواقعيّة باعتبار أن إسرائيل هي الدولة الشرق أوسطيّة الأكثر تقدماً وديمقراطيّة -وهي الحجّة السخيفة التي حاول الكيان الصهيونيّ بثّها عبر العالم، لتجميل صورته.
هؤلاء المثقفون الليبراليّون هم متواطئون بشكل أو بآخر مع البروباجندا الصهيونيّة التي تحاول تصدير نفسها كبلدٍ ديمقراطيّ في شرق أوسط سلطويّ. في كتابه ‘‘عشرة أساطير حول فلسطين‘‘، قام إيلان بابيه -هو أحد المؤرخين الجدد الإسرائيليين المعادين للدّولة الصهيونيّة، وهو ناشطٌ ومفكّر معروف بتوجهاته تلك- بدحض فكرة أنّ إسرائيل هي الدّولة الديمقراطيّة الوحيدة في الشرق الأوسط، بل يقول إنّها ليست ديمقراطيّة على الإطلاق، ويتتبّع ذلك من قبل ١٩٦٧، وتقسيمها للأرض وتهجير الفلسطينيين، والسجن بلا محاكمة، إلخ. يمثّل كتاب بابيه مادّة فاضحة لدولة استعماريّة استيطانيّة تأكل الفلسطينيين وأرضهم كلّ يوم.
ولا يقتصر التطبيع على الدعوة إلى هذه الواقعيّة المزيَّفة، بل شهدنا تطورّاً أيضاً. حيث تتم استضافة ضيوف إسرائيليين لـ‘‘تبيان وجهة النظر الإسرائيليّة‘‘ على شاشات كالجزيرة -وبالمناسبة، فقطر من أوائل الدول العربيّة التي طبّعت واعترفت بإسرائيل بعد مؤتمر مدريد الذي أشرتُ إليه عاليه، واستضافت شمعون بيريز عام ١٩٩٦، وافتتحوا حينها المكتب التجاريّ الإسرائيليّ في العاصمة القطريّة الدوحة، وأُنشئت بورصة الغاز القطريّ في تل أبيب.
على صعيد آخر، مع استمرار عمليات تهويد القدس وصهينته من قبل الاحتلال، خرج الروائيّ والمحقّق المصريّ يوسف زيدان، وهو من دعاة التطبيع في مصر، بالقول إنّ المكان الذي أُسريَ إليه النبيّ محمد -عليه الصلاة والسلام- ليس القدس، وإنما هو مكان قريب إلى الطائف بالمملكة العربيّة السعوديّة؛ الأمر الذي تماشى مع الأيديولوجيّة الصهيونيّة لصرف انتباه العرب المسلمين عن القدس باعتباره مكاناً ليس له أهميّة، لأنّ القرآن لم يقم بذكره. وقد لاقت كلمات زيدان كثيراً من الاحتجاجات على وسائل التواصل الاجتماعيّ والسخرية والنيل منه.
الكويت: استثناء عربي؟
في ضوء ما أوردناه سريعاً بالأعلى من التطبيع الشائع في الوطن العربي، ومع تزايد الاستقبال العربي –وكبعض دول الخليج مؤخراً- للوفود الإسرائيليّة، فإنّ الكويت تبدو بمثابة مغردة خارج سرب محيطها العربي الساعي، بخطى ثابتة، إلى التطبيع مع إسرائيل، وفتح نوافذ علاقات دبلوماسيّة وأمنتيّة. لقد أكّد غيرما مرّة الأمير الراحل جابر الأحمد الصبّاح بأن “الكويت ستكون آخر المطبعين”. وهناك دعم ملموس من الأمير الحال صباح الأحمد الصباح، متمثلاً في الموقف السياسيّ في مجلس الأمن، والموقف الثقافيّ، والسماح السياسيّ لمؤتمرات ورفع شعارات مناوئة للتطبيع في بلد الكويت. وفي تصريحات رسميّة، حسب صحيفة القبس، عبّر وزير الخارجيّة الكويتيّ خالد الجار الله، بأنّ موقف الكويت معروف من التطبيع بالرفض.
والحال أنّ دولة الكويت العربيّة لا تعترف بالكيان الصهيونيّ، ولا تطلق عليها اسم دولة فلسطين. وقد شاركت الكويت، كما هو معلوم، في حرب أكتوبر، ومات ما يقدّر بأربعين كويتياً في تلك الحرب الحاسمة.
وقد شاهدنا في عام ٢٠١٧، عندما قام رئيس البرلمان الكويتيّ، مرزوق علي الغانم، بطرد الممثل الإسرائيليّ في مؤتمر الاتحاد العالميّ بالمملكة المتحدة، رافضاً حضوره التام؛ الموقف الذي لاقى دعماً كويتياً، على مستوى الشارع، وعلى مستوى الأمير الذي رحّب بهذه الفعلة، مؤكداً الموقف الكويتيّ من نصر الأشقاء الفلسطينيين.
هناك موقف دوليّ في الكويت من التطبيع، ودائماً ما تُقام لجنات ضد التطبيع، وفي موجة تطبيع الجوار الخليجيّ للكويت، فإنّ ندوات تُقام ضدّ ذلك. وبهذا، تبدو الكويت كمغردة خارج السرب العربي الساعي إلى التماهي مع السرديّة الصهيونيّة عن الفلسطينيين وحقهم في بلدانهم.
خاتمة
بالمؤشرات، فإنّ التطبيع العربيّ مع إسرائيل في طريقه إلى التسارع والتقادم، وهناك طبقة من المثقفين الذين لا يهمهم سوى إنهاء هذه المسألة ‘‘المزعجة‘‘ بالنسبة إليهم المتمثّلة في فلسطين. لكن الرهان الحقيقيّ هو دائماً على الشارع العربيّ الذي يرفض الكيان الصهيونيّ جملةً وتفصيلاً.
This post has already been read 87 times!