- – السياسة الخارجية العراقية تغيرت جذريًا بعد 2003 مع وصول قوى جديدة للحكم ذات ارتباطات خارجية.
- – واقع السياسية الخارجية العراقية يعاني من مشاكل متعددة كعدم وحدة القرار السيادي وتعدد مصادره من صنع وتنفيذ وتمثيل.
- – فشلت الدبلوماسية العراقية في كثير من مقارباتها الخارجية بسبب التلبد والغموض وصراع تقاسم السلطات.
- – الإرباك الذي تعيشه السياسة الخارجية العراقية مرده للداخل والمحيط الإقليمي المضطرب.
- – الخلافات مع دول الجوار ودول الإقليم فرضت إيقاعها على عمل السياسة الخارجية العراقية تحديًا وتقييدًا.
- – العمق العربي الخليجي “السعودي” يسعى لدعم العراق وضمان عودته لعمقه العربي رغم كل الخلافات.
- – ما قبل 2003، الفشل الأكبر في السياسة الخارجية العراقية تمثل في العدوان على الكويت عام ١٩٩٠، فدخلت المنطقة في دوامة من الأزمات والتوترات.
- – الحاجة لوضع خطط وتصورات واضحة لعمل السياسة الخارجية العراقية لضمان استقرار العراق وتحقيق التوازن مع محيطه وعمقه العربي.
- – حصر الخلافات الداخلية في البيت العراقي يمنع استغلال القوى الخارجية مع ضرورة المأسسة الفاعلة للسياسة الخارجية ودوائرها.
شهدت السياسة الخارجية العراقية تغيرًا جذريًا بعد الاحتلال الأمريكي لبغداد عام ٢٠٠٣ ووصول قوى جديدة للحكم ذات ارتباطات مع أمريكا وإيران على عكس النهج الذي اتبعته بغداد في العقود السابقة.
تحاول هذه الورقة إعطاء نظرة مجملة تمهيدية وتأسيسية لورقات لاحقة، عن السياسة العراقية بشقيها الداخلي والخارجي عبر البدء بالسياسة الخارجية من خلال تحديد إشكاليات صنع القرار السياسي الخارجي في العراق وارتباطه بأزمات الداخل والفواعل الإقليميين والدوليين بعد تحديد الخطوط العريضة واستراتيجية السياسة الخارجية العراقية قبل وبعد الاحتلال الأمريكي والتحديات التي تواجهها خلال مراحل صناعتها.. وذلك كله نظرًا لأهمية العراق وارتباط بغداد بتعقيدات المنطقة والشرق الأوسط ككل.
أولًا: تمهيد تاريخي
إن تفكيك السياسة الخارجية العراقية قبل سقوط صدام يخضع لمتغيرات كثيرة تجعل من الموضوع معقد نسبيًا ويحتاج جهدًا أكبر ومساحات أكثر من هذه الورقة، ولذلك يمكن أن نجمل السياسة الخارجية العراقية منذ سيطرة حزب البعث منذ تموز يوليو عام ١٩٦٨ حتى الاحتلال عام ٢٠٠٣ من منظور واقعي بذل خلاله العراق جهودًا قوية لتوثيق علاقاته الخارجية عبر تبني سياسة التعاون والتضامن مع دول العالم الثالث وبقية الدول الخاضعة الاستعمار فانطبعت السياسة الخارجية العراقية بطابع المناهض لمختلف السياسات الأمبريالية والهيمنة الاقتصادية والسياسية على بلدان إفريقيا وآسيا وامريكا اللاتينية ضمن سياسة عدم الانحياز حينها في ظل استعار الحرب الباردة مع بعض التوافق مع المعسكر الشرقي حتى سقوط الاتحاد السوفيتي.
ومنذ يوليو تموز ١٩٦٨ حتى ٢٠٠٣ نجد في مقاربات السياسة الخارجية العراقية نوعًا من التداخل المركب بين مشاكل التنمية والاستقلال وقضايا الأمن والسلام في الشرق الأوسط وفق ما تؤكده الدراسات المختصة، في ظل رغبة عراقية واضحة بأخذ موقع حيوي في المسرح الدولي؛ فأضحت السياسة الخارجية العراقية ساعية للتكيف التدريجي بين إيديولوجية الداخل ومتغيرات الأحداث الخارجية ما فرض نوعًا من التخفيف في جمود العقيدة السياسية العقائدية وما تفرضه على الدبلوماسية العراقية. (يجب عدم نسيان منعطفين مهمين في هذا الباب وهما الحرب العراقية الإيرانية والاحتلال العراقي للكويت).
وفي فترة عقود ما قبل الاحتلال برزت في السياسة العراقية الخارجية المعطيات الجيوسياسية المرتبطة بالشرق الأوسط بشقها السياسي والأمني مع خضوع المنطقة لتأثيرات الحرب الباردة وتجاذبات التكتلات والأحلاف دون نسيان الصراع العربي الإسرائيلي.
وكانت سياسات الحرب الباردة زعزعت استقرار المنطقة -من وجهة نظر العراق على الاقل مع وجود إسرائيل- فوجدنا السياسة الخارجية العراقية اتخذت موقفًا واضحًا اقتنع بأن منطقة الخليج العربي ستكون مسرحًا للنزاعات المسلحة مع تحول دول الخليج للانحياز أو التحالف مع قوى دولية في مسرح المواجهات مباشرة أو بشكل غير مباشر.
من جهة أخرى كان التعصب الديني والتطرف المذهبي مع نجاح الثورة الإسلامية في طهران وسيطرة الملالي على الحكم في إيران مع ما جسدوه من نموذج جديد لهكذا توجهات خصوصًا مع دعوات تصدير الثورة كاستراتيجية لنظرية ولاية الفقيه والتي رأت فيها بغداد سياسة لن تنشئ توترات سياسية فحسب، بل ستتسبب بانتشار الصراعات الدينية والطائفية وتهدد السلام والأمن واستقرار الشرق الأوسط (وهو ما جرى فعليًا لاحقًا).
وفي صعيد العلاقة بين دول الخليج العربي والعراق، شهدت السياسة الخارجية العراقية تذبذبات وتوترًا مبطنًا في عقود الستينات والسبعينات بين الطرفين رغم جهود بناء علاقات تعاون بناءة لكن ازدواج السياسة العراقية في السبعينيات بين رغبة تطوير العلاقات الدبلوماسية والرغبات الشعبية الإيديولوجية الساعية لنشر أفكار القومية حينها فاتخذت مواقف راديكالية (دعمت بغداد تمرد ظفار ضد السلطان قابوس في عمان مثلا).. وبمجمل تلك التقاطعات أُثيرت حفيظة الدول الخليجية التي باتت ترى في السياسة العراقية ضارة بأمن واستقرار الخليج فتدهورت العلاقات الدبلوماسية بينهما، والحديث يطول في هذه الجزيئات ليس مجالها الورقة الحالية.
إلا أن الحرب العراقية الإيرانية شكلت نقطة انعطاف في العلاقات الخليجية العراقية فرطبت الأجواء مع بغداد وانفتحت السعودية على العراق وتقديم الدعم الاقتصادي خصوصا بعد الهجوم الإيراني على المنشآت النفطية الكويتية التي شكلت تصعيدًا خطيرًا في نطاق العمليات العسكرية، وخاض العراق الحرب ضد إيران بدعم خليجي واضح للدفاع عن العالم العربي.. وحرصت الرياض حينها على عدم السماح بهزيمة العراق.
إلا أن النقطة المفصلية والفشل الأكبر في السياسة الخارجية العراقية تمثل في العدوان على الكويت عام ١٩٩٠، الذي أدخل المنطقة في دوامة من الأزمات والتوترات لم تنتهي آثارها إلى اليوم خصوصًا مع ما تسببت به من قطيعة بين دول الخليج العربي والعراق ودخول بغداد في مرحلة حصار دولي مهد للاحتلال عام ٢٠٠٣.
وخلاصة القول إن مقررات السياسة الخارجية العراقية قبل ٢٠٠٣ كانت تخضع بشكل كليّ لرؤية ورغبة الرئيس بحيث لم يرتكز الأداء الدبلوماسي العراقي حينها على خطط وصياغات استراتيجية للأهداف والوسائل، بل لم تأخذ بالحسبان القدرات الحقيقية للبلاد في صراعها مع القوى الإقليمية والدولية ما يفسر لنا كيف أصبحت حروب العراق انتكاسة للسياسة الخارجية العراقية (خصوصًا احتلال الكويت).
ثانيــًا: مرحلة ما بعد 2003
أصبحت السيطرة الأمريكية على العراق، النقطة المفصلية الأهم في تاريخ الدولة العراقية الحديث وتجاوز في آثاره حتى حربي الخليج الأولى والثانية مع ما تركه من منعكسات داخلية في العراق ظهرت نتائجها في الشرق الأوسط ككل.
ونتج عن مرحلة إسقاط نظام صدام حسين بالقوة الأمريكية وقوى دولية أخرى، مرحلة انتقالية استمرت تبعاتها حتى اليوم من فوضى اقتتال داخلي وانهيار مؤسسات الدولة وتجذّر الفساد وتصاعد حدة الاحتجاجات الشعبية، لكن الأهم مثله ارتهان قرار بغداد السيادي لمصالح القوى الإقليمية والدولية المتصارعة في المنطقة بشكل انعكس حتى سياسة العراق الخارجية.
ومن المتفق عليه أن معرفة وتحليل المتغيرات الداخلية والإقليمية والدولية تتحكم بالسياسة لأي دولة وتنعكس وتتحكم بشكل واضح في سياسة العراق الخارجية على قضايا المنطقة منذ الاحتلال حتى اليوم.
أ. المشهد الداخلي بعد الاحتلال:
يتفق الباحثون أن السياسة الخارجية هي انعكاس للسياسة الداخلية، خصوصًا في ما يتعلق بطبيعة الأنظمة السياسية القائمة، فالأنظمة الاستبدادية غالبًا ما تنتهج سياسة خارجية تختلف تماماً عن الأنظمة الديمقراطية. (الأولى قائمة على أساس الارتجال والعاطفة على عكس الثانية التي تعتمد الدبلوماسية وفن التفاوض).
تسببت السيطرة الأمريكية على العراق ببلورة جديدة للمشهد السياسي في العراق على مقومات الهوية الطائفية وفق ادعاءات التوافق وتقاسم السلطات بمظاهر ديمقراطية فيدرالية برلمانية تعددية هيأ لها دستور ٢٠٠٥ وتراوحت بين الصراعات الطائفية وتموضع توازنات القوى المحلية مع الاستجابة لخطط وخيارات الفواعل الإقليمية بل والدولية النافذة في المشهد العراقي.
لكن، تسبب وضع التنوع الطائفي والعرقي في الدستور والمشهد السياسي بظهور مطامع قومية وطائفية انعكست على الحكم الذاتي للأكراد وهيمنة الشيعة على مفاصل الدولة وطمسهم لأي وجود سني في البلاد ما تسبب بارتفاع مستويات العنف الجماعي بشكل طائفي هزّ شرعية النظام القائم، وتعرقلت أي مشاريع للإصلاح الاقتصادي أو تهدئة الوضع الاجتماعي فشاهدنا ارتفاع حدة العنف الذي وصل لمظاهر حرب أهلية في العاصمة ومدن أخرى في عامي ٢٠٠٦-٢٠٠٨ والتي استمرت لاحقًا مع انتفاضات الربيع العربي. فأصبح العراق أقرب لنماذج الدول الهشة الفاشلة.
اقتصاديًا، قاد تغيير النظام العراقي بالقوة لظهور منظومة اقتصادية نيوليبرالية أقل ما وصفت به أنها فاشلة.. أما مجتمعيًا فانعدم الأمن وتفكك الواقع المجتمعي وانحرف للعنف والوحشية المجتمعية.
وبذلك بات أبرز الفواعل في المشهد السياسي العراقي بعد ٢٠٠٣ هم: الأمريكان، المؤسسة السياسية الجديدة، الميليشيات المسلحة والتيارات الحزبية الطائفية (خصوصًا الشيعية)، وإيران.. وفواعل إقليمين على رأسهم تركيا والسعودية. (ستناقش ورقات لاحقة مستقلة تغيرات المشهد الداخلي العراقي قبل وبعد ٢٠٠٣).
إذن وبعيد السيطرة الأمريكية، اختفت المرجعية العراقية في سيرورة العملية السياسية مع عجز واضح عن فرز أي مرجعية وطنية مع سيطرة الأجندة الأمريكية للعراق والشرق الأوسط.. كما وساهم الدستور الجديد بصيَغِه الفيدرالية والقومية بفتح الباب أمام تفكك الدولة وتحولها لأقاليم تكاد تكون مستقلة.
ب. القوى الخارجية في القرار السيادي العراقي:
قوّى الغزو الأمريكي للعراق وجود ونفوذ إيران في البلاد مع دخولها المراحل الانتقالية بعد الاحتلال في ظل فوضى السياسة والأمن وقرارات تصفية رجال الحكم السابق لتصبح طهران أهم فاعل خارجي متدخل في إدارة الشأن العراقي خصوصًا في مرحلته الانتقالية إدارة ونفوذًا وتغلغل.. فتمت إعادة رسم أولويات العهد الجديد الذي انقسم بين مصالح واشنطن وأهداف إيران الاقتصادية والاستراتيجية والسياسية.
وتمثلت استراتيجية إيران في العراق بعد الاحتلال بالسعي لتشكيل كتلة سياسية “موالية” مسيطرة لها أذرع عسكرية يتم تمويلها ودعمها.. وهذا ما حمل نوعًا من التوافق مع المحتل الأمريكي في بداية الاحتلال وفق مؤشرات مختلفة. (من أبرز المؤشرات يمكننا ذكر اختيار عبد العزيز الحكيم من قبل الامريكان ومنحه ثقة كبيرة، كاعتراف أمريكي بدور إيران ما بعد سقوط بغداد).
ومع اقتراب عام ٢٠١٠ -الموعد المفترض للانسحاب الأمريكي- تجذرت وتعمقت محاولات إيران السيطرة والتأثير في المشهد العراقي لضمان أغلبية شيعية سياسية حاكمة وتعزيز النفوذ العسكري الذي يتحكم بصناعة القرار العراقي في توجهاته الكبرى للمراحل القادمة. (ظهر قاسم سليماني كمفوض ومتحكم بالقوى السياسية الشيعية والميليشيات ومن خلالهم بالمشهد العراقي).
إلى ذلك، استخدمت إيران بنجاح آليات وأدوات القوة الناعمة عبر تكوين أحزاب سياسية وجماعات ضغط مع ما سبق من تعزيز قوتها العسكرية من ميليشيات أدخلتها في مؤسسات الدولة (فُرض الجناح العسكري لمنظمة بدر على وزارة الداخلية العراقية).
وتراجع دور الدولة المركزية مع تصاعد سيطرة الميليشيات (جيش المهدي مثلا) على المشهد الأمني ضمن أجندة إيرانية كبرى تسعى للهيمنة واستخدام العراق في مفاوضاتها الخارجية.. فتمكنت الأجندة الإيرانية من تشتيت النخب العراقية وقضت على التجربة الديمقراطية عبر الطائفة والعرق.
أما واشنطن فأرادت من خلال العراق ضمان مصالحها في المنطقة وتعزيز نفوذها لكنها فشلت في تحقيق اختراقات مهمة وتحول تعاونها مع طهران إلى تنافس وصدام تحولت فيه الميليشيات الشيعية ومن ورائهم إيران إلى خطر تكتيكي يتحدى نفوذ واشنطن الاستراتيجي ليصبح العراق ساحة مواجهة فعلية تتكون فيها استراتيجيات إيران العسكرية والأمنية ضد خطط أمريكية لتحقيق أطماع التمدد الإيراني.
ثالثـــًا: السياسة الخارجية العراقية بعد الاحتلال
مع انعكاسات البيئة الداخلية والخارجية ومعطياتها وتأثيرها الواقع على صنع السياسات الخارجية وتوجهها ونمطها، نجد أن العراق عانى فعليًا ما بعد الاحتلال من تحديات نبعت من الإشكاليات المذكورة.. حيث تأثرت عملية صنع القرار الخارجي بتلك المتغيرات.
إن الواقع المعقد لمرحلة ما بعد الاحتلال وبدايات رسم ملامح دولة جديدة، تضاربت فيه مصالح القوى السياسية والفواعل الداخلية تحت تحريض خارجي، ألقى بظلاله على تشكيل سياسة العراق الخارجية التي ظهرت بمظهر مختل غير متوازن ولا مدروس خلا من مصالح القوى الداخلية الخاضعة لنفوذ القوى الخارجية الإقليمية والدولية.
لكن المشهد الذي ذكرناه، قاد بشكل مقصود أو غير مقصود، لتخلص السياسة الخارجية العراقية من صبغة المركزية والفردانية التي سيطرت عليها – كما أشرنا – مع إعادة هيكلة مؤسسات الدولة التي باتت تواجه تحديات كثيرة داخليا إقليميًا وفي المستوى الدولي.
أ. أثر الصراع والانقسام الداخلي:
مع غياب المرجعية الوطنية إبان الاحتلال وتشظي الدولة وتكريس التقسيم عبر دستور ٢٠٠٥ وجدنا صراع الكتل السياسية يحمل صبغة طائفية واضحة مع سعي كل طائفة للانفراد بالسلطة وتجييرها لصالح أحزابها ما تسبب بضياع وانعدام رؤية السياسة الخارجية العراقية في تلك الفترات – بعد الاحتلال – فلم تتضح معالم السياسة الخارجية في مرحلة التحول فأثرت المحاصصة على لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان بحسب مقاعد الكتل دون نسيان غياب التعاون والتنسيق مع وزارة الخارجية فظهرت تباينات شديدة بين الكتل والشخصيات السياسية وصلت لمراحل صدامية.. ولعل ذلك ما يفسر لنا فشل الدبلوماسية العراقية في كثير من مقارباتها الخارجية وسعيها لحلّ مشاكلها مع دول كثيرة بعد ذلك التلبد والغموض وصراع تقاسم السلطات.
إلى ذلك، فرض تعدد مراكز القوى تدخل الأحزاب بتعيين ممثليات دبلوماسية في الخارج دون اعتماد معايير الكفاءة والأهلية، ما انعكس على فاعلية وأداء الدبلوماسية العراقية.. كما أن تصريحات النواب والسياسيين وفق أهوائهم ومصالحهم تؤكد ضعف سيطرة الدولة والحكومة على سياستها الخارجية (حادثة تهجم نائب عراقي على الكويت والتهديد بالحشد الشعبي منذ فترة كمثال)..
هذا ويكرس دستور ٢٠٠٥ تكبيله لصنع القرار الخارجي حينما سمح للأقاليم والمحافظات بأخذ صلاحيات التمثيل الدبلوماسي وفتح مكاتبهم في الخارج مع ما يسببه ذلك من ازدواجية الاختصاص وتناقض الأداء احيانًا بسبب كل ما أشرنا له.
ب. الإشكاليات الإقليمية:
تسببت الخلافات مع دول الجوار ودول الإقليم بفرض إيقاعها على عمل السياسة الخارجية العراقية وأخضعتها لجملة تحديات وفرضت قيودًا في قضايا كثيرة.
إيران من جهتها تتدخل بشكل “سافر” في الشؤون الداخلية العراقية لتحقيق أهدافها القريبة والبعيدة عبر استراتيجية واضحة الخطوات والمعالم تنامى فيها الدور الإيراني بشكل كبير جدًا حتى استطاع المشروع الإيراني أن يصبح الفاعل والمؤثر الأبرز في العراق، عبر وكلاء طهران الذين لجأوا لتكريس سلطتهم لخدمة المصالح الإيرانية منذ العام 2011، حتى اندلاع ثورة 25 تشرين 2019 التي شكلت أكبر تهديد حقيقي لنفوذ طهران في العراق مع تصاعد هتاف الشارع الرافض لإيران وعملائها.
مع تركيا تبرز مشكلة الأكراد والقضايا الحدودية وأزمة المياه والأقليات التركمانية في العراق دون نسيان تواجد القوات التركية في عمق الأراضي العراقية منذ سنين.
أما العلاقة مع السعودية فهي مذبذبة وغير مستقرة بسبب العامل الإيراني كمعطى أهم يضاف للمعطيات السابقة ومع ارتفاع درجات صراع إيديولوجي مذهبي بات سمة جديدة للعلاقة بين البلدين.. في حين لم نشهد تغييرًا كبيرًا في سياسة بغداد الخارجية نحو الكويت بعد العام 2003 عما قبل الاحتلال، مع إشكاليات ملف تعويضات الغزو ومشاكل ترسيم الحدود والتحكم الإيراني وحالة الفوضى الأمنية الميليشياوية، مع التأكد على أن رؤية الكويت قد تغيرت بعد سقوط نظام صدام الذي شكّل تهديدًا مباشرًا للكويت، وكذلك بعد خروج العراق من البند السابع بعد إيفاء أغلب التزاماته الدولية مع الكويت إذا ما استثنينا ملف الحدود الذي تستمر مفاوضاته حتى الآن.
ت. التعقيد الدولي:
تحول العراق لركيزة مهمة للأمريكان في تموضعهم العالمي و استراتيجية واشنطن في الشرق الأوسط كنقطة ارتكاز وانطلاق مهمة في مختلف سياساتها.. لذلك سعت واشنطن للسيطرة على القرار السياسي العراقي منذ الاحتلال من خلال اتفاقيات تعاون وصداقة واتفاقيات استراتيجية أمنية كاتفاقية ٢٠١١ بعد الانسحاب، رأى فيها كثير من المتابعين مكبلة لبغداد من خلال صيغة الوصاية على صنع القرار العراقي التي عززها عمليات محاربة الإرهاب، خصوصًا في الشؤون الخارجية فبات يحسب حساب واشنطن في أي تحرك عراقي خارجي وظهرت انعكاسات الاحتلال في أداء الدبلوماسية العراقية.
إلا أن السنوات الأخيرة شهدت دخولًا وتغلغلًا لبعض الفواعل الدولية الأخرى كالأوروبيين والروس وأخيرًا الصينيين، للحصول على مكاسب واستثمارات إلا أن ذلك يصطدم بصخرتي واشنطن وإيران.
ث. التقاطعات والتحديات:
اتضح لدينا مدى التعقيد الذي تعيشه السياسة الخارجية العراقية مع تحدّيات جمّة، فالدول المتغلغلة في العراق تستغل التوترات الداخلية بين الكتل السياسية الرئيسة وتضغط من خلالها مدركة طبيعة المجتمع العراقي التعددي بشكل قوّض طموحات السياسة الخارجية العراقية وإبقائها مجرد مخططات..
وهنا ننوه بما لجأ له صانع القرار السياسي العراقي في شؤونه الخارجية حيث استند إلى آليات سياسية فعلت خلالها وزارة الخارجية دورها، وآليات اقتصادية ظهرت فيها رغبات بغداد بتعزيز التعاون الخارجي تحت عناوين مصلحة العراق عبر تأطير السياسة الخارجية بأطر اقتصادية.
ويمكن إجمال أبرز التحديات التي تواجه السياسة الخارجية العراقية تقاطعها مع فاعلين مهمين هما أمريكا وإيران، فسعي بغداد لاتباع سياسة الحياد الإيجابي والانفتاح الاستراتيجي -وهو الصيغة الرسمية المعلنة- قد تسمح للعراق بأخذ دور الموازن الإقليمي بين مختلف الفواعل لكن سعي إيران لجرّ العراق بشكل كامل لطرفها ورغبة واشنطن باستخدام بغداد مسرحًا لخططها، عرقلت وما تزال تعرقل هذا الدور.
لذلك تستمر الحاجة لوضع تصور واضح لسياسة العراق الخارجية وفق خطط استراتيجية تضمن حماية استقرار العراق ودخوله في علاقات متوازنة خصوصًا مع عمقه العربي وحصر الخلافات الداخلية في البيت العراقي لمنع استغلالها من القوى الخارجية دون نسيان ضرورة تعزيز عمل مؤسسات صناعة القرار الخارجي عبر تكوين دوائر وصنع خبرات متمكنة.
خاتمة تلخيصية:
حاولت هذه الورقة إعطاء نظرة مجملة كمدخل مهم لفهم السياسة الخارجية العراقية بعد ٢٠٠٣ بصورة مجملة عبر تحديد إشكاليات الداخل وتعقيدات الخارج المحددة والناظمة لعمل هذه السياسة ومكامن الضعف والتحديات مع الفرص المحتملة التي يجب على المحيط العربي للعراق فهمها والسعي للاستفادة منها لموازنة تأثيري إيران وأمريكا.
واليوم، يعاني واقع السياسية الخارجية العراقية من مشاكل متعددة أبرزها عدم وحدة القرار السيادي وتعدد مصادره من حيث الصنع والتنفيذ والتمثيل.. في حين تتعقد خياراتها المستقبلية وتزداد صعوبة في ظل بيئة إقليمية ودولية بات فيها الصراع والتنافس حاضرًا ويستند لسياسة المحاور.
ورغم عدم وضوح الرؤية والتوجه في السياسة الخارجية العراقية، لكن لا يمكننا تحميل المسؤولية فقط للداخل حيث ساهم المحيط الإقليمي المضطرب وتدخل الجيران (إيران تحديدًا وبعض التدخل التركي) مع سياسات المحاور الدولية، ساهم ذلك كله بإرباك السياسة الخارجية العراقية التي ما تزال تعاني من عدم الثبات وخلل البيئة الداخلية الذي انعكس على الأداء الخارجي الذي يخضع لمؤثرات الإقليم والدول الفاعلة وضعف الداخل يعزز من تدخل الخارج باختصار.
This post has already been read 1995 times!

